نظرة عامة للمزمور
صفحة 1 من اصل 1
نظرة عامة للمزمور
نظرة عامة للمزمور
بعض المزامير يُطلق عليها الشراح اسم المزامير المسياوية لأنها تتحدث عن المسّيا أو المسيح. ومع أن كل المزامير تتكلم بصورة أو بأخرى عن المسيح، بل الكتاب المقدس كله موضوعه الرئيسي هو المسيح، لكن "المزامير المسياوية" هي تلك التي جاءت منها اقتباسات صريحة ومباشرة في العهد الجديد عن المسيح.
هناك مزامير كثيرة تنطبق على ظروف كاتبها، كما وتنطبق علينا نحن المؤمنين، لأن كل ما كتب، كتب لأجل تعليمنا(رو15: 4)، لكن هناك مزامير أخرى في الوحي لا يمكن أن تنطبق سوى على شخص المسيح لا سواه. نذكر على سبيل المثال ما ورد في مزمور 16 «لأنك لن تترك نفسي في الهاوية. لن تدع تقيك يرى فساداً»، ولقد اقتبس كل من الرسولين بطرس وبولس هذه العبارة. وكان تعليق الرسول بطرس عليها «يسوغ أن يقال لكم جهاراً عن رئيس الآباء داود إنه مات ودفن وقبره عندنا حتى هذا اليوم. فإذ كان نبياً وعلم أن الله حلف له بقسم إنه من ثمرة صلبه يقيم المسيح حسب الجسد ليجلس على كرسيه، سبق فرأى وتكلم عن قيامة المسيح أنه لم تترك نفسه في الهاوية ولا رأى جسده فساداً» (أع27:2ـ31). كما علق عليها الرسول بولس فقال «لأن داود بعد ما خدم جيله بمشورة الله رقد وانضم إلى آبائه ورأى فساداً. وأما الذي أقامه الله فلم ير فساداً» (أع36:13،37).
وأيضاً ما جاء في مزمور 22 «ثقبوا يديّ ورجليّ»، فلم يحدث ذلك مع داود. فداود إذاً هنا لا يتكلم عن نفسه، ولا من نفسه، إنما لكونه نبياً عرف أن من نسله سيأتي المسيح، وأنه سيموت مصلوباً.
وفي مزمور 68 نقرأ «صعدت إلى العلاء. سبيت سبياً». هذه الأقوال أيضا لا تنطبق على داود، فلا داود ولا غيره صعد إلى السماء كقول الرب له المجد «ليس أحد صعد إلى السماء، إلا الذي نزل من السماء، ابن الإنسان الذي هو في السماء» (يو13:3).
وفي مزمور110 نقرأ «قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعدائك موطئاً لقدميك». ولقد علّق الرب على هذه الآية وقال «فإن كان داود يدعوه رباً فكيف يكون ابنه؟ فلم يستطع أحد أن يجيبه بكلمة» (مت45:22،46).
لكن من بين مجموعة المزامير المسياوية فإن المزمور الثاني والعشرين له غلاوة خاصة. إنه بحق قمة المزامير المسياوية، كما أنه أيضاً مزمور الصليب أكثر من أي مزمور آخر. وبالتالي فإننا فيه نرى يسوع المسيح وإياه مصلوباً.
مزمور لداود
كاتب هذا المزمور، كما يتضح من عنوانه هو داود. لكن موضوع هذا المزمور لا يحدثنا عن اختبار داود. وحتى لو كنا نقدر أن نرى بعض الملامح لاختبار داود من خلال المزمور، لكن هذه الملامح لا تزيد عن كونها ضوء الكوكب الذي سرعان ما يختفي أمام نور الشمس. ومع سبرجون نقول إن الذي يرى في هذا المزمور يسوع وآلامه لا يعنيه بعد ذلك أن يرى فيه داود أو سواه.
لقد كتب داود هذا المزمور إذاً بروح النبوة. فهذا المزمور هو جزء من «الكلمة النبوية» (2بط1: 19). وأنبياء العهد القديم تنبأوا بروح المسيح الذي فيهم، عن الآلام التي للمسيح والأمجاد التي بعدها (1بط1: 11)، فلا عجب أن يقول الملاك ليوحنا إن «شهادة يسوع هي روح النبوة» (رؤ19: 10).
نعم هذا المزمور لا يعطينا أساساً اختبار داود. فبالإضافة إلى أن داود لم يمت مصلوباً، ولا كانت ميتة الصلب تمارس على عهده، والأرجح أن الرومان هم الذين أدخلوها بعد داود بمئات السنين، فإن داود أيضاً لم يُترك من الله؛ أليس هو القائل في مزمور 37 «أيضاً كنت فتى وقد شخت ولم أر صدّيقاً تُخلّي عنه». كلا، ليس هذا المزمور اختبار داود، بل هو اختبار المسيح من فوق الصليب.
لقد ذكر أحد الشراح للكتاب، وهو يهودي متنصر، أن هذا المزمور يحتوي على 33 نبوة تمت في المسيح. فيا للعجب أن اليهود حتى اليوم لا يرون في هذا المزمور آلام المسيا، تلك الآلام التي تسبق ملكه العتيد على كل العالم. وليس فقط هم لا يرون المسيح فيه، بل إن المزمور يمثل لهم حجرة عثرة، والكثيرون منهم يتحاشون قراءته تماماً، كما يفعلون أيضاً مع إشعياء 53.
وأوضح النبوات والإشارات إلى المسيح في هذا المزمور ما يلي:
1- الآية الأولى «إلهي إلهي لماذا تركتني» قالها المسيح وهو على الصليب كما نفهم من متى 27: 46، مرقس 15: 34
2- الآيات من 6 إلى 8 التي تحتوي على تهكم البشر، تسجل كلمات الأشرار التي قالوها للمسيح وهو فوق الصليب بالحرف تقريباً (انظر متى27: 39-44).
3- الآيات 11،12 التي تشير إلى انتفاء المعونة البشرية عن القدوس المتألم تمت عندما تركه التلاميذ كلهم وهربوا (مت26: 56).
4- الآية 16 عن صلبه «ثقبوا يدي ورجلي»، وأن هذه العملية ستتم بأيدي الأمم؛ الرومان الذين يشير إليهم المزمور بأنهم "كلاب"، تمت في صلب المسيح (مت27: 35).
5- الآية 17 عن نظر الناس إليه وتفرسهم فيه (انظر لوقا23: 35).
6- الآية 18 عن اقتسام ثياب المسيح (ولقد أشار إلى هذه العملية كتبة البشائر الأربعة - انظر متى 27: 35، مرقس 15: 24، لوقا 23: 34، يوحنا 19: 23،24).
7- الآية 22 عن حضور المسيح وسط تلاميذه ليخبرهم باسم الآب ويسبحه في وسط الكنيسة (قارن يوحنا20: 19، مع عبرانيين 2: 12).
ثلاثية مزامير الراعي
بعض الشراح يسمون مجموعة المزامير (22، 23، 24) بمزامير الراعي. وهذه المزامير الثلاثة كتبها داود بالروح القدس. ونحن نعرف أن داود بدأ حياته راعياً للغنم، ثم اختاره الرب ليرعى شعبه إسرائيل (مز 78: 70-72). وفي خلال حياته قاسى الكثير من الآلام وهو في هذا كله رمز مجيد للمسيح المتألم، الراعي والملك.
ولقد تكلم العهد الجديد عن المسيح كالراعي مستخدماً ثلاثة ألقاب هي الراعي الصالح، والراعي العظيم، ورئيس الرعاة. ولقد استخدم الروح القدس في تسجيل هذه الألقاب كلاً من الرسول يوحنا، ثم الرسول بولس، ثم الرسول بطرس على التوالي.
ففي إنجيل يوحنا نقرأ قول المسيح عن نفسه «أنا هو الراعي الصالح. والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف» (يو10: 11). كما يقول الرسول بولس في الرسالة إلى العبرانيين «وإله السلام الذي أقام من الأموات راعى الخراف العظيم ربنا يسوع بدم العهد الأبدي» (عب13: 20). ويختم الرسول بطرس هذه الثلاثية مشيراً إلى ظهور المسيح بالمجد والقوة فيقول في رسالته الأولى 5: 4 «ومتى ظهر رئيس الرعاة تنالون إكليل المجد الذي لا يبلى».
وواضح هنا الارتباط الوثيق بين هذه الثلاثية. فمجيء المسيح بالنعمة ليفدي البشر، ذلك المجيء الذي انتهى بموت الصليب، يحدثنا عن الراعي الصالح. لكنه بعد الموت قام وصعد إلى السماء ممجداً، وهو هناك يخدمنا باعتباره راعي الخراف العظيم. وأخيراً سيأتي إلينا مرة ثانية مستعلناً بالمجد والقوة، ليعطي الأجرة لعبيده الأمناء، وذلك باعتباره رئيس الرعاة.
هذه الأفكار الثلاثة نجدها بنفس هذا الترتيب في مزامير الراعي؛ مزمور22، 23، 24. ففي مزمور 22 نجد الراعي الصالح الذي بذل نفسه عن خرافه الغالية، وفي مزمور 23 نجد الراعي العظيم المعتني بكل خروف من قطيعه العزيز، والذي يحفظهم خلال هذا العالم المليء بالمخاطر والتجارب، ويرعاهم خلال الحياة المليئة بالاحتياجات والإعوازات. وفي مزمور 24 نجد رئيس الرعاة، الذي هو نفسه «ملك المجد» عندما يظهر ليكافئ كل الخدام الأمناء الذين اعتنوا بقطيعه العزيز على قلبه.
هذه الثلاثية الجميلة تغطى الحياة بأكملها «أمساً واليوم وإلى الأبد». فبالنسبة للأمس نذكر تجسد المسيح باعتباره الراعي الذي أتى من السماء إلى الأرض لكي يفتش عن الغنم، ولكي ما يذهب وراء الضال حتى يجده، ثم مضى إلى الصليب كالراعي الصالح ليبذل نفسه عن الخراف. وهو ما يحدثنا به مزمور22.
لكن الصليب لم يكن النهاية، ونفس المزمور الذي يكلمنا أساساً عن الصليب يشير أيضاً إلى القيامة. وبعد القيامة نرى خدمة أخرى للمسيح؛ كراعي الخراف العظيم المقام من الأموات. فالذي مات لأجلنا، قام، وهو حي لأجلنا. ولا شك أنه ما كان بوسع واحد منا أن يخلص دون خدمة رعايته لنا. من فينا حتى بعد إيمانه يستغني عن هذا الراعي العظيم؟!
لكن سوف تنتهي هذه الحياة الحاضرة والتي نسميها "اليوم" (عب3: 13)، والتي استمرت نحو ألفي سنة، عندما يأتي الرب، لندخل "إلى الأبد" وذلك «متي ظهر رئيس الرعـاة».
والعلاقة بين هذه الثلاثية الجميلة نجدها في آية سجلها موسى في ترنيمته الشهيرة في خروج 15: 13 وهذه العلاقة هي كالآتي: في مزمور 22 نجد الفداء بالنعمة، وفي مزمور 23 نجد الإرشاد بالرأفة، وفي مزمور 24 نجد مسكـن قدسه.
أو بلغة آساف في مزمور 73: 24 نجد في مزمور 22 النعمة المخلصة، وفي مزمور23 نجد الرأي الهادي، وفي مزمور24 نجد المجد العتيد.
ويلخص كل مزمور سؤال كالآتي:
مزمور22 لماذا تركتني؟
مزمور23 أين تُربض؟
مزمور24 من هو هذا؟
فكأن المسيح في مزمور22 وحيد منفرد، وفي مزمور 23 نجده مع أحبائه، وفي مزمور 24 هو فوق الجميع.
وإذا عقدنا المقارنة بين مزاميرالراعي الثلاثة هذه نجد الآتـي:
مزمور22
مزمور23
مزمور 24
الماضي
الحاضر
المستقبل
النعمة
الإرشاد
المجد
تواضع المسيح
ترفق المسيح
قوة المسيح
الخلاص بالدم
الخلاص بحياته
الخلاص بظهوره
صليب الفداء
عصا الرعاية
صولجان الملك
جبل المريا
الوادي
جبل صهيون
مزمور ذبيحة الخطية
بالإضافة إلى مجموعة مزامير الراعي هناك مجموعة أخرى تتوافق مع الذبائح والتقدمات المذكورة في سفر اللاويين 1-5؛ وأعني بها المحرقة وقربان الدقيق وذبيحة السلامة، ثم ذبيحة الخطية وذبيحة الإثم. هذه التقدمات والذبائح كلها تحدثنا عن شخص المسيح وعمله. ويتفق معظم الشراح على أن مزمور16 هو مزمور قربان الدقيق؛ حيث يصف لنا حياة المسيح القدسية الفريدة والتي كانت كلها رائحة سرور للرب.
وأما الذبائح الأربع فإنها تحدثنا عن عمل المسيح من فوق الصليب من زواياه المختلفة. وهي نفس الأوجه التي تقدمها لنا الأناجيل الأربعة. فإنجيل يوحنا يقدم لنا موت المسيح كالمحرقة، وإنجيل لوقا يقدمه لنا كذبيحة السلامة، وإنجيل مرقس يقدمه لنا كذبيحة الخطية وإنجيل متى يقدمه لنا كذبيحة الإثم.
ولنا في سفر المزامير أيضا أربعة مزامير تتمشى مع تلك الذبائح الأربع، ومع الأناجيل الأربعة، وهذه المزامير هي مزمور22، 40، 69، 118
وليس من العسير أن نرى الطابع المميز لهذه المزامير الأربعـة:
مزمـور40
المحرقة
الطاعة وإتمام مشيئة الله
مزمـور118
ذبيحة السلامة
الشركة والرضا
مزمـور22
ذبيحة الخطية
الترك من الله وتحمل الألم
مزمـور69
ذبيحة الإثم
رد المسلوب والتعويض
اخلع حذاءك من رجليك
إذا كنا في هذا المزمور نرى تصويراً لآلام المسيح وهو فوق الصليب، فكم يكون هذا المزمور كريماً وثميناً بالنسبة لكل مؤمن. كيف لا وهو يُفتتح بالعبارة التي نطق بها المسيح من عمق الألم والظلمة في الجلجثة. والمسيح إن كان قد نطق بفمه بأولى عبارات هذا المزمور، فإنه لا شك قد أكمل بقيته بروحه. ونحن إن كنا نجد في الأناجيل تسجيلاً للوقائع التي تمت في الجلجثة، فإننا في المزامير، ولا سيما هذا المزمور نجد تسجيلاً لمشاعر المسيح الجريحة وأحزانه الدفينة وهو يجتاز أحزان الجلجثة.
إن من يقرأ هذا المزمور يجد فيه صورة حية لمشهد الجلجثة الرهيب حيث تألم المسيح من أجلنا. وإننا لن نجد في كل الكتاب تصويراً أبلغ لآلام الكفارة، وجعل المسيح ذبيحة خطية لأجلنا، مما نراه هنا. إنه حقاً مزمور يحوي سر الأسرار؛ الابن الحبيب متروكاً من الله! ينبوع المياه الحية بحنك يابس! الذي تبدي الخليقة قدرته السرمدية يقول «يبست مثل شقفة قوتي»! والمؤتزر بالمجد والجلال نراه عارياً من كل كرامة بشرية!! فلتنحن الهامات إذاً، وليفض من القلب أعمق مشاعر التوقير والإجلال والتعبد، ولنخلع أحذيتنا من أرجلنا ونحن نقرأ هذا المزمور، فإننا هنا نقف في قدس أقداس الكتاب المقدس كله!
اخفضوا الرأس وهيا يا جموع
احملوا الطيب، اسكبوه في خشوع
إننا نشهدُ أحزانَ يسوع
فاذكروا موسى ولا تنسوا يشوع
الآلام والأمجاد
لقد تنبأ أنبياء العهد القديم عن الآلام التي للمسيح والأمجاد التي بعدها (1بط1: 11). وهذا المزمور يحتوي فعلاً على هاتين الفكرتين؛ الآلام والأمجاد.
من ع 1-21 موضوعه صرخة المتألم؛ ويبدأ بقوله الكريم «إلهي إلهي لماذا تركتني»
ومن ع22 - 31 موضوعه تسبيح المنتصر؛ ويبدأ أيضاً بقوله «أخبر باسمك اخوتي. في وسط الجماعة أسبحك» (قارن عب2: 12).
عندما صرخ الرب كان بمفرده فلم يكن ممكناً أن يكون أحد معه، لكن عندما سبح؛ لم يسبح وحده، بل نراه يسبح وسط مفدييه؛ الجماعة التي انفصلت لأجله وصارت له.
ففي النصف الأول نجده وحيداً تماماً، لم يكن معه أحد من أحبائه. عندما أتوا ليقبضوا علي المسيح «تركه الجميع وهربوا» (مر14: 50). وهو يقول لله في هذا المزمور «لا تتباعد عني ... لأنه لا معين». لكن ليس فقط كل البشر تركوه، بل أيضا الله تركه! أما في النصف الثاني، فنجد أكثر من دائرة مرتبطة به، كما سنرى في حينه.
في القسم الأول نراه محاطاً بأعدائه المشبهين بالثيران الجامحة والكلاب الجائعة، يعيرونه ويضطهدونه، بينما في القسم الثاني هو في وسط أحبائه ومفدييه يقود تسبيحاتهم لأبيه.
في القسم الأول وهو في ساعات الظلمة يشكو أن الله لا يسمع له ولا يستجيبه (ع2)، بينما في القسم الثاني يقول «لأنه لم يحتقر ولم يرذل مسكنة المسكين، ولم يحجب وجهه عنه، بل عند صراخه إليه استمع» (ع24).
القسم الأول خلاصته التنهد (ع2)، أما القسم الثاني ترنم (ع22،25).
ما أبعد الفارق بين قسمي المزمور، نستطيع القول عن القسم الأول ظلمة الجلجثة، والقسم الثاني فجر القيامة. وما أبعد الفرق بين ظلمة الجلجثة في رابعة النهار، وبين الصبح المنير عندما قام المسيح من الأموات فجلا ليل الدجى.
كم كان حزن التلاميذ عندما مات المسيح، وكم كانت فرحتهم عندما قام من الأموات. لكننا في هذا المزمور لا نرى حزن التلاميذ وفرحتهم، بل نرى أحزان المسيح في الجزء الأول، وأفراحه في الجزء الثاني.
في القسم الأول «كل الذين يرونني يستهزئون بي، يفغرون الشفاه وينغضون الرأس قائلين» هم يتكلمون، وهو يجتر أحزانه في صمت! لكن سوف يأتي الوقت الذي فيه يتكلم هو وأمامه يستد كل فم. وهذا موضوع القسم الثاني «لأن للرب الملك وهو المتسلط علي الأمم».
في القسم الأول نرى الرب وهو ذاهب بالبكاء حاملاً مبذر الزرع، لكن في القسم الثاني نراه آتياً بالترنم حاملاً حزمه (مز126: 6).
العمل ونتائجه
هذا المزمور باعتباره نبوة عن شخص ربنا يسوع المسيح فإنه يحدثنا عن عمله الكريم ونتائجه الباهرة؛ هذه النتائج التي عبر عنها الرسول بالقول «من أجل السرور الموضوع أمامه»، وبسبب هذا السرور قبل أن يقوم بالعمل «احتمل الصليب مستهيناً بالخزي» (عب12: 2).
وكما رأينا في قسمي المزمور آلام المسيح وأمجاده، يمكننا أن نرى فيهما أيضاً عمل المسيح ونتائجه.
من ع 1 - 21 نرى العمل الذي أتمه المسيح على الصليب، ثم بداية من ع22 - 31 نرى نتائج عمله الكريم.
وما عمله المسيح إنما عمله من خلال الألم. ولقد تمت آلامه هذه في دقة عجيبة، حتى وإن بدت بعض التفاصيل ثانوية لا أساسية، فعليها جميعاً انطبق القول «هكذا هو مكتوب، وهكذا كان ينبغي أن المسيح يتألم» (لو24: 46).
والآلام في هذا المزمور ثلاثية المصدر: من الله ومن البشر ومن الشيطان. فهناك آلام نيابية من الله وجسدية من البشر وجهنمية من الشيطان، وذلك نظراً لقداسة الله وكراهية الإنسان وعداء الشيطان.
ع1-6 نجد المسيح متروكاً من الله.
ع7-18 نجد المسيح محتقراً ومتألماً من الشعب.
ع19-21 نجد المسيح مضطهداً ومسحوقاً من الشيطان.
وكما أن آلام المسيح ثلاثية فإن نتائج عمل المسيح أيضاً ثلاثية؛ فهي أولاً لمجد الله، ولإسعاد الإنسان، ولدحر الشيطان.
من ع22-25 نجد مجد الله
من ع26،27 نجد سعادة الإنسان
من ع28-31 نجد ملك المسيح الذي يتضمن سحق الشيطان ودحره نهائياً.
****
يبدأ هذا المزمور بما يتوافق مع عيد الفصح (ع1-3)، حيث نسمع تأوهات الحمل المشوي بنار العدالة الإلهية.
وفي منتصفه نقرأ ما يتجاوب مع عيد الخمسين (ع22-24)، حيث التقدمة الجديدة، والتي لها نفس نوع حياة ربنا يسوع المسيح، «لأن المقدس والمقدسين جميعهم من واحد فلهذا السبب لا يستحي أن يدعوهم اخوة، قائلاً اخبر باسمك اخوتي، وفي وسط الكنيسة أسبحك» (عب2: 12).
وفي آخر المزمور نقرأ ما يتمشى مع عيد المظال (ع27-29)، حيث ستمتلئ الأرض من معرفة مجد الرب كما تغطي المياه البحر، عندما يملك الرب، ويسعد الإنسان، وتعم الفرحة كل الخليقة.
إن كان مجيداً في أعيننا المسيح المتألم، فكم بالحري يكون المسيح الممجد. وإن كان يحلو لقلوبنا أن تراه عندما كان دامي الرأس، مكللاً بالأشواك لأجلنا، فكم تتوق بالأحرى لأن تراه وعلى رأسه تيجان كثيرة!
بعض المزامير يُطلق عليها الشراح اسم المزامير المسياوية لأنها تتحدث عن المسّيا أو المسيح. ومع أن كل المزامير تتكلم بصورة أو بأخرى عن المسيح، بل الكتاب المقدس كله موضوعه الرئيسي هو المسيح، لكن "المزامير المسياوية" هي تلك التي جاءت منها اقتباسات صريحة ومباشرة في العهد الجديد عن المسيح.
هناك مزامير كثيرة تنطبق على ظروف كاتبها، كما وتنطبق علينا نحن المؤمنين، لأن كل ما كتب، كتب لأجل تعليمنا(رو15: 4)، لكن هناك مزامير أخرى في الوحي لا يمكن أن تنطبق سوى على شخص المسيح لا سواه. نذكر على سبيل المثال ما ورد في مزمور 16 «لأنك لن تترك نفسي في الهاوية. لن تدع تقيك يرى فساداً»، ولقد اقتبس كل من الرسولين بطرس وبولس هذه العبارة. وكان تعليق الرسول بطرس عليها «يسوغ أن يقال لكم جهاراً عن رئيس الآباء داود إنه مات ودفن وقبره عندنا حتى هذا اليوم. فإذ كان نبياً وعلم أن الله حلف له بقسم إنه من ثمرة صلبه يقيم المسيح حسب الجسد ليجلس على كرسيه، سبق فرأى وتكلم عن قيامة المسيح أنه لم تترك نفسه في الهاوية ولا رأى جسده فساداً» (أع27:2ـ31). كما علق عليها الرسول بولس فقال «لأن داود بعد ما خدم جيله بمشورة الله رقد وانضم إلى آبائه ورأى فساداً. وأما الذي أقامه الله فلم ير فساداً» (أع36:13،37).
وأيضاً ما جاء في مزمور 22 «ثقبوا يديّ ورجليّ»، فلم يحدث ذلك مع داود. فداود إذاً هنا لا يتكلم عن نفسه، ولا من نفسه، إنما لكونه نبياً عرف أن من نسله سيأتي المسيح، وأنه سيموت مصلوباً.
وفي مزمور 68 نقرأ «صعدت إلى العلاء. سبيت سبياً». هذه الأقوال أيضا لا تنطبق على داود، فلا داود ولا غيره صعد إلى السماء كقول الرب له المجد «ليس أحد صعد إلى السماء، إلا الذي نزل من السماء، ابن الإنسان الذي هو في السماء» (يو13:3).
وفي مزمور110 نقرأ «قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعدائك موطئاً لقدميك». ولقد علّق الرب على هذه الآية وقال «فإن كان داود يدعوه رباً فكيف يكون ابنه؟ فلم يستطع أحد أن يجيبه بكلمة» (مت45:22،46).
لكن من بين مجموعة المزامير المسياوية فإن المزمور الثاني والعشرين له غلاوة خاصة. إنه بحق قمة المزامير المسياوية، كما أنه أيضاً مزمور الصليب أكثر من أي مزمور آخر. وبالتالي فإننا فيه نرى يسوع المسيح وإياه مصلوباً.
مزمور لداود
كاتب هذا المزمور، كما يتضح من عنوانه هو داود. لكن موضوع هذا المزمور لا يحدثنا عن اختبار داود. وحتى لو كنا نقدر أن نرى بعض الملامح لاختبار داود من خلال المزمور، لكن هذه الملامح لا تزيد عن كونها ضوء الكوكب الذي سرعان ما يختفي أمام نور الشمس. ومع سبرجون نقول إن الذي يرى في هذا المزمور يسوع وآلامه لا يعنيه بعد ذلك أن يرى فيه داود أو سواه.
لقد كتب داود هذا المزمور إذاً بروح النبوة. فهذا المزمور هو جزء من «الكلمة النبوية» (2بط1: 19). وأنبياء العهد القديم تنبأوا بروح المسيح الذي فيهم، عن الآلام التي للمسيح والأمجاد التي بعدها (1بط1: 11)، فلا عجب أن يقول الملاك ليوحنا إن «شهادة يسوع هي روح النبوة» (رؤ19: 10).
نعم هذا المزمور لا يعطينا أساساً اختبار داود. فبالإضافة إلى أن داود لم يمت مصلوباً، ولا كانت ميتة الصلب تمارس على عهده، والأرجح أن الرومان هم الذين أدخلوها بعد داود بمئات السنين، فإن داود أيضاً لم يُترك من الله؛ أليس هو القائل في مزمور 37 «أيضاً كنت فتى وقد شخت ولم أر صدّيقاً تُخلّي عنه». كلا، ليس هذا المزمور اختبار داود، بل هو اختبار المسيح من فوق الصليب.
لقد ذكر أحد الشراح للكتاب، وهو يهودي متنصر، أن هذا المزمور يحتوي على 33 نبوة تمت في المسيح. فيا للعجب أن اليهود حتى اليوم لا يرون في هذا المزمور آلام المسيا، تلك الآلام التي تسبق ملكه العتيد على كل العالم. وليس فقط هم لا يرون المسيح فيه، بل إن المزمور يمثل لهم حجرة عثرة، والكثيرون منهم يتحاشون قراءته تماماً، كما يفعلون أيضاً مع إشعياء 53.
وأوضح النبوات والإشارات إلى المسيح في هذا المزمور ما يلي:
1- الآية الأولى «إلهي إلهي لماذا تركتني» قالها المسيح وهو على الصليب كما نفهم من متى 27: 46، مرقس 15: 34
2- الآيات من 6 إلى 8 التي تحتوي على تهكم البشر، تسجل كلمات الأشرار التي قالوها للمسيح وهو فوق الصليب بالحرف تقريباً (انظر متى27: 39-44).
3- الآيات 11،12 التي تشير إلى انتفاء المعونة البشرية عن القدوس المتألم تمت عندما تركه التلاميذ كلهم وهربوا (مت26: 56).
4- الآية 16 عن صلبه «ثقبوا يدي ورجلي»، وأن هذه العملية ستتم بأيدي الأمم؛ الرومان الذين يشير إليهم المزمور بأنهم "كلاب"، تمت في صلب المسيح (مت27: 35).
5- الآية 17 عن نظر الناس إليه وتفرسهم فيه (انظر لوقا23: 35).
6- الآية 18 عن اقتسام ثياب المسيح (ولقد أشار إلى هذه العملية كتبة البشائر الأربعة - انظر متى 27: 35، مرقس 15: 24، لوقا 23: 34، يوحنا 19: 23،24).
7- الآية 22 عن حضور المسيح وسط تلاميذه ليخبرهم باسم الآب ويسبحه في وسط الكنيسة (قارن يوحنا20: 19، مع عبرانيين 2: 12).
ثلاثية مزامير الراعي
بعض الشراح يسمون مجموعة المزامير (22، 23، 24) بمزامير الراعي. وهذه المزامير الثلاثة كتبها داود بالروح القدس. ونحن نعرف أن داود بدأ حياته راعياً للغنم، ثم اختاره الرب ليرعى شعبه إسرائيل (مز 78: 70-72). وفي خلال حياته قاسى الكثير من الآلام وهو في هذا كله رمز مجيد للمسيح المتألم، الراعي والملك.
ولقد تكلم العهد الجديد عن المسيح كالراعي مستخدماً ثلاثة ألقاب هي الراعي الصالح، والراعي العظيم، ورئيس الرعاة. ولقد استخدم الروح القدس في تسجيل هذه الألقاب كلاً من الرسول يوحنا، ثم الرسول بولس، ثم الرسول بطرس على التوالي.
ففي إنجيل يوحنا نقرأ قول المسيح عن نفسه «أنا هو الراعي الصالح. والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف» (يو10: 11). كما يقول الرسول بولس في الرسالة إلى العبرانيين «وإله السلام الذي أقام من الأموات راعى الخراف العظيم ربنا يسوع بدم العهد الأبدي» (عب13: 20). ويختم الرسول بطرس هذه الثلاثية مشيراً إلى ظهور المسيح بالمجد والقوة فيقول في رسالته الأولى 5: 4 «ومتى ظهر رئيس الرعاة تنالون إكليل المجد الذي لا يبلى».
وواضح هنا الارتباط الوثيق بين هذه الثلاثية. فمجيء المسيح بالنعمة ليفدي البشر، ذلك المجيء الذي انتهى بموت الصليب، يحدثنا عن الراعي الصالح. لكنه بعد الموت قام وصعد إلى السماء ممجداً، وهو هناك يخدمنا باعتباره راعي الخراف العظيم. وأخيراً سيأتي إلينا مرة ثانية مستعلناً بالمجد والقوة، ليعطي الأجرة لعبيده الأمناء، وذلك باعتباره رئيس الرعاة.
هذه الأفكار الثلاثة نجدها بنفس هذا الترتيب في مزامير الراعي؛ مزمور22، 23، 24. ففي مزمور 22 نجد الراعي الصالح الذي بذل نفسه عن خرافه الغالية، وفي مزمور 23 نجد الراعي العظيم المعتني بكل خروف من قطيعه العزيز، والذي يحفظهم خلال هذا العالم المليء بالمخاطر والتجارب، ويرعاهم خلال الحياة المليئة بالاحتياجات والإعوازات. وفي مزمور 24 نجد رئيس الرعاة، الذي هو نفسه «ملك المجد» عندما يظهر ليكافئ كل الخدام الأمناء الذين اعتنوا بقطيعه العزيز على قلبه.
هذه الثلاثية الجميلة تغطى الحياة بأكملها «أمساً واليوم وإلى الأبد». فبالنسبة للأمس نذكر تجسد المسيح باعتباره الراعي الذي أتى من السماء إلى الأرض لكي يفتش عن الغنم، ولكي ما يذهب وراء الضال حتى يجده، ثم مضى إلى الصليب كالراعي الصالح ليبذل نفسه عن الخراف. وهو ما يحدثنا به مزمور22.
لكن الصليب لم يكن النهاية، ونفس المزمور الذي يكلمنا أساساً عن الصليب يشير أيضاً إلى القيامة. وبعد القيامة نرى خدمة أخرى للمسيح؛ كراعي الخراف العظيم المقام من الأموات. فالذي مات لأجلنا، قام، وهو حي لأجلنا. ولا شك أنه ما كان بوسع واحد منا أن يخلص دون خدمة رعايته لنا. من فينا حتى بعد إيمانه يستغني عن هذا الراعي العظيم؟!
لكن سوف تنتهي هذه الحياة الحاضرة والتي نسميها "اليوم" (عب3: 13)، والتي استمرت نحو ألفي سنة، عندما يأتي الرب، لندخل "إلى الأبد" وذلك «متي ظهر رئيس الرعـاة».
والعلاقة بين هذه الثلاثية الجميلة نجدها في آية سجلها موسى في ترنيمته الشهيرة في خروج 15: 13 وهذه العلاقة هي كالآتي: في مزمور 22 نجد الفداء بالنعمة، وفي مزمور 23 نجد الإرشاد بالرأفة، وفي مزمور 24 نجد مسكـن قدسه.
أو بلغة آساف في مزمور 73: 24 نجد في مزمور 22 النعمة المخلصة، وفي مزمور23 نجد الرأي الهادي، وفي مزمور24 نجد المجد العتيد.
ويلخص كل مزمور سؤال كالآتي:
مزمور22 لماذا تركتني؟
مزمور23 أين تُربض؟
مزمور24 من هو هذا؟
فكأن المسيح في مزمور22 وحيد منفرد، وفي مزمور 23 نجده مع أحبائه، وفي مزمور 24 هو فوق الجميع.
وإذا عقدنا المقارنة بين مزاميرالراعي الثلاثة هذه نجد الآتـي:
مزمور22
مزمور23
مزمور 24
الماضي
الحاضر
المستقبل
النعمة
الإرشاد
المجد
تواضع المسيح
ترفق المسيح
قوة المسيح
الخلاص بالدم
الخلاص بحياته
الخلاص بظهوره
صليب الفداء
عصا الرعاية
صولجان الملك
جبل المريا
الوادي
جبل صهيون
مزمور ذبيحة الخطية
بالإضافة إلى مجموعة مزامير الراعي هناك مجموعة أخرى تتوافق مع الذبائح والتقدمات المذكورة في سفر اللاويين 1-5؛ وأعني بها المحرقة وقربان الدقيق وذبيحة السلامة، ثم ذبيحة الخطية وذبيحة الإثم. هذه التقدمات والذبائح كلها تحدثنا عن شخص المسيح وعمله. ويتفق معظم الشراح على أن مزمور16 هو مزمور قربان الدقيق؛ حيث يصف لنا حياة المسيح القدسية الفريدة والتي كانت كلها رائحة سرور للرب.
وأما الذبائح الأربع فإنها تحدثنا عن عمل المسيح من فوق الصليب من زواياه المختلفة. وهي نفس الأوجه التي تقدمها لنا الأناجيل الأربعة. فإنجيل يوحنا يقدم لنا موت المسيح كالمحرقة، وإنجيل لوقا يقدمه لنا كذبيحة السلامة، وإنجيل مرقس يقدمه لنا كذبيحة الخطية وإنجيل متى يقدمه لنا كذبيحة الإثم.
ولنا في سفر المزامير أيضا أربعة مزامير تتمشى مع تلك الذبائح الأربع، ومع الأناجيل الأربعة، وهذه المزامير هي مزمور22، 40، 69، 118
وليس من العسير أن نرى الطابع المميز لهذه المزامير الأربعـة:
مزمـور40
المحرقة
الطاعة وإتمام مشيئة الله
مزمـور118
ذبيحة السلامة
الشركة والرضا
مزمـور22
ذبيحة الخطية
الترك من الله وتحمل الألم
مزمـور69
ذبيحة الإثم
رد المسلوب والتعويض
اخلع حذاءك من رجليك
إذا كنا في هذا المزمور نرى تصويراً لآلام المسيح وهو فوق الصليب، فكم يكون هذا المزمور كريماً وثميناً بالنسبة لكل مؤمن. كيف لا وهو يُفتتح بالعبارة التي نطق بها المسيح من عمق الألم والظلمة في الجلجثة. والمسيح إن كان قد نطق بفمه بأولى عبارات هذا المزمور، فإنه لا شك قد أكمل بقيته بروحه. ونحن إن كنا نجد في الأناجيل تسجيلاً للوقائع التي تمت في الجلجثة، فإننا في المزامير، ولا سيما هذا المزمور نجد تسجيلاً لمشاعر المسيح الجريحة وأحزانه الدفينة وهو يجتاز أحزان الجلجثة.
إن من يقرأ هذا المزمور يجد فيه صورة حية لمشهد الجلجثة الرهيب حيث تألم المسيح من أجلنا. وإننا لن نجد في كل الكتاب تصويراً أبلغ لآلام الكفارة، وجعل المسيح ذبيحة خطية لأجلنا، مما نراه هنا. إنه حقاً مزمور يحوي سر الأسرار؛ الابن الحبيب متروكاً من الله! ينبوع المياه الحية بحنك يابس! الذي تبدي الخليقة قدرته السرمدية يقول «يبست مثل شقفة قوتي»! والمؤتزر بالمجد والجلال نراه عارياً من كل كرامة بشرية!! فلتنحن الهامات إذاً، وليفض من القلب أعمق مشاعر التوقير والإجلال والتعبد، ولنخلع أحذيتنا من أرجلنا ونحن نقرأ هذا المزمور، فإننا هنا نقف في قدس أقداس الكتاب المقدس كله!
اخفضوا الرأس وهيا يا جموع
احملوا الطيب، اسكبوه في خشوع
إننا نشهدُ أحزانَ يسوع
فاذكروا موسى ولا تنسوا يشوع
الآلام والأمجاد
لقد تنبأ أنبياء العهد القديم عن الآلام التي للمسيح والأمجاد التي بعدها (1بط1: 11). وهذا المزمور يحتوي فعلاً على هاتين الفكرتين؛ الآلام والأمجاد.
من ع 1-21 موضوعه صرخة المتألم؛ ويبدأ بقوله الكريم «إلهي إلهي لماذا تركتني»
ومن ع22 - 31 موضوعه تسبيح المنتصر؛ ويبدأ أيضاً بقوله «أخبر باسمك اخوتي. في وسط الجماعة أسبحك» (قارن عب2: 12).
عندما صرخ الرب كان بمفرده فلم يكن ممكناً أن يكون أحد معه، لكن عندما سبح؛ لم يسبح وحده، بل نراه يسبح وسط مفدييه؛ الجماعة التي انفصلت لأجله وصارت له.
ففي النصف الأول نجده وحيداً تماماً، لم يكن معه أحد من أحبائه. عندما أتوا ليقبضوا علي المسيح «تركه الجميع وهربوا» (مر14: 50). وهو يقول لله في هذا المزمور «لا تتباعد عني ... لأنه لا معين». لكن ليس فقط كل البشر تركوه، بل أيضا الله تركه! أما في النصف الثاني، فنجد أكثر من دائرة مرتبطة به، كما سنرى في حينه.
في القسم الأول نراه محاطاً بأعدائه المشبهين بالثيران الجامحة والكلاب الجائعة، يعيرونه ويضطهدونه، بينما في القسم الثاني هو في وسط أحبائه ومفدييه يقود تسبيحاتهم لأبيه.
في القسم الأول وهو في ساعات الظلمة يشكو أن الله لا يسمع له ولا يستجيبه (ع2)، بينما في القسم الثاني يقول «لأنه لم يحتقر ولم يرذل مسكنة المسكين، ولم يحجب وجهه عنه، بل عند صراخه إليه استمع» (ع24).
القسم الأول خلاصته التنهد (ع2)، أما القسم الثاني ترنم (ع22،25).
ما أبعد الفارق بين قسمي المزمور، نستطيع القول عن القسم الأول ظلمة الجلجثة، والقسم الثاني فجر القيامة. وما أبعد الفرق بين ظلمة الجلجثة في رابعة النهار، وبين الصبح المنير عندما قام المسيح من الأموات فجلا ليل الدجى.
كم كان حزن التلاميذ عندما مات المسيح، وكم كانت فرحتهم عندما قام من الأموات. لكننا في هذا المزمور لا نرى حزن التلاميذ وفرحتهم، بل نرى أحزان المسيح في الجزء الأول، وأفراحه في الجزء الثاني.
في القسم الأول «كل الذين يرونني يستهزئون بي، يفغرون الشفاه وينغضون الرأس قائلين» هم يتكلمون، وهو يجتر أحزانه في صمت! لكن سوف يأتي الوقت الذي فيه يتكلم هو وأمامه يستد كل فم. وهذا موضوع القسم الثاني «لأن للرب الملك وهو المتسلط علي الأمم».
في القسم الأول نرى الرب وهو ذاهب بالبكاء حاملاً مبذر الزرع، لكن في القسم الثاني نراه آتياً بالترنم حاملاً حزمه (مز126: 6).
العمل ونتائجه
هذا المزمور باعتباره نبوة عن شخص ربنا يسوع المسيح فإنه يحدثنا عن عمله الكريم ونتائجه الباهرة؛ هذه النتائج التي عبر عنها الرسول بالقول «من أجل السرور الموضوع أمامه»، وبسبب هذا السرور قبل أن يقوم بالعمل «احتمل الصليب مستهيناً بالخزي» (عب12: 2).
وكما رأينا في قسمي المزمور آلام المسيح وأمجاده، يمكننا أن نرى فيهما أيضاً عمل المسيح ونتائجه.
من ع 1 - 21 نرى العمل الذي أتمه المسيح على الصليب، ثم بداية من ع22 - 31 نرى نتائج عمله الكريم.
وما عمله المسيح إنما عمله من خلال الألم. ولقد تمت آلامه هذه في دقة عجيبة، حتى وإن بدت بعض التفاصيل ثانوية لا أساسية، فعليها جميعاً انطبق القول «هكذا هو مكتوب، وهكذا كان ينبغي أن المسيح يتألم» (لو24: 46).
والآلام في هذا المزمور ثلاثية المصدر: من الله ومن البشر ومن الشيطان. فهناك آلام نيابية من الله وجسدية من البشر وجهنمية من الشيطان، وذلك نظراً لقداسة الله وكراهية الإنسان وعداء الشيطان.
ع1-6 نجد المسيح متروكاً من الله.
ع7-18 نجد المسيح محتقراً ومتألماً من الشعب.
ع19-21 نجد المسيح مضطهداً ومسحوقاً من الشيطان.
وكما أن آلام المسيح ثلاثية فإن نتائج عمل المسيح أيضاً ثلاثية؛ فهي أولاً لمجد الله، ولإسعاد الإنسان، ولدحر الشيطان.
من ع22-25 نجد مجد الله
من ع26،27 نجد سعادة الإنسان
من ع28-31 نجد ملك المسيح الذي يتضمن سحق الشيطان ودحره نهائياً.
****
يبدأ هذا المزمور بما يتوافق مع عيد الفصح (ع1-3)، حيث نسمع تأوهات الحمل المشوي بنار العدالة الإلهية.
وفي منتصفه نقرأ ما يتجاوب مع عيد الخمسين (ع22-24)، حيث التقدمة الجديدة، والتي لها نفس نوع حياة ربنا يسوع المسيح، «لأن المقدس والمقدسين جميعهم من واحد فلهذا السبب لا يستحي أن يدعوهم اخوة، قائلاً اخبر باسمك اخوتي، وفي وسط الكنيسة أسبحك» (عب2: 12).
وفي آخر المزمور نقرأ ما يتمشى مع عيد المظال (ع27-29)، حيث ستمتلئ الأرض من معرفة مجد الرب كما تغطي المياه البحر، عندما يملك الرب، ويسعد الإنسان، وتعم الفرحة كل الخليقة.
إن كان مجيداً في أعيننا المسيح المتألم، فكم بالحري يكون المسيح الممجد. وإن كان يحلو لقلوبنا أن تراه عندما كان دامي الرأس، مكللاً بالأشواك لأجلنا، فكم تتوق بالأحرى لأن تراه وعلى رأسه تيجان كثيرة!
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
رشاد حبيب-
عدد المساهمات : 184
تاريخ التسجيل : 31/01/2010
العمر : 45
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى