ساعتكم وسلطان الظلمة
صفحة 1 من اصل 1
ساعتكم وسلطان الظلمة
ساعتكم وسلطان الظلمة
مزمور22: 4-21
دعونا مرة أخرى ننظر إلى هذا المنظر العجيب، الذي لن نصل مطلقاً إلى عمقه أو قراره طالما نحن في الأرض، ولن نمل من التأمل فيه طوال فترة وجودنا في البرية وفي الغربة، حتى نصل إلى السماء. وماذا ستكون السماء؟ وما هي الأبدية؟ إنها جلسة متصلة حول الخروف المذبوح (رؤيا 5). فهل سنستطيع في الأبدية أن نصل إلى قرار أعماق محبة المسيح لنا؟ كلا، بل ستظل محبة المسيح فائقة المعرفة، وستظل أسرار الصليب فوق أفهامنا.
وسننشغل في هذا الفصل بالتأمل في آلام المسيح التي احتملها من يد الإنسان، وهذه الآلام مذكورة في هذا المزمور من ع4-21 وقد تمت في دقة عجيبة بعد نحو ألف سنة في الرب يسوع عندما كان معلقاً فوق الصليب.
دودة لا إنسان !
تفتتح هذه الأعداد موضوع دراستنا الآن بهذه العبارة المذيبة التي سبق لنا التأمل فيها «أما أنا فدودة لا إنسان».
من هو الذي يقول هذا ؟ إنه مبدع الكون القدير. تأملي يا نفسي في هذا اللغز العجيب واخشعي!
وكلمة دودة نطقها بالعبري "تولع"، هو اسم أحد قضاة إسرائيل (قض10: 1)، ويعتبر رمزاً لقاضي إسرائيل الحقيقي لكن المرفوض (مي5: 1). ويستخدم هذا الاسم للتعبير عن ديدان صغيرة حمراء اللون، تجمع بهز الشجر الذي توجد فيه، وعندما تسحق تلك الديدان تتخضب تماماً بالدم القاني، مما يذكرنا برجل الأحزان الذي لأجلنا كان دامي الرأس والظهر واليدين والرجلين والجنب، وذلك من آثار الشوك والسياط والمسامير والحربة. أما سحق تلك الديدان فكان يعطي أفخر الصبغات الحمراء الزاهية، والتي يشار إليها في نبوة إشعياء باسم «الدودي»، أو «القرمز» (إش 1: 18). ولقد كانت هذه الصبغة مكلفة وغالية، وكان يصنع منها ثياب الملوك والأمراء. وهكذا سحق ربنا يسوع تبارك اسمه حتى نلبس نحن المجد والبهاء !
عندما مات شاول الملك، رثاه داود بالقول «يا بنات أورشليم ابكين شاول الذي ألبسكن قرمزاً بالتنعم» (2صم1: 24). لكن الواقع إنه ليس شاول هو الذي عزز بنات أورشليم (قارن 1 صم8: 13)، بل إن الذي كسانا بالعز حقاً هو المسيح.
لقد قبل ذاك المجيد الذي تتعبد له الملائكة أن يتألم وأن يهان من أجلنا حتى ما نرتدي نحن الحلة الأولى. قبل أن يسحق من أجل آثامنا. وهل هناك ثمة صعوبة في سحق دودة؟! أيحتاج ذلك إلى قوة أو جبروت؟ في الواقع ما أسهل أن تسحق دودة. وماذا تستطيع تلك الدودة أن تفعل سوى أن تتألم وأن تعاني ؟! والرب تبارك اسمه ارتضى أن يكون كذلك. ومع أن بيلاطس قال عنه في المحاكمة «هوذا الإنسان»، لكنه الآن وهو معلق فوق عود الصليب يقول عن نفسه «أما أنا فدودة لا إنسان»!
لقد سبق أن رأينا كيف سحق الله المسيح وهو فوق الصليب، والسبب لذلك هو خطايانا. يقول الوحي «وهو مجروح من أجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا .. أما الرب فسر بأن يسحقه بالحزن» (إش53: 5،10). لكننا الآن سنرى كيف استخدم الشيطان البشر جميعهم في سحق رجل الأحزان ربنا يسوع المسيح، فتمت الكلمات التي كان الرب الإله قد قالها في الجنة للحية «أضع عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها هو يسحق رأسك وأنت تسحقين عقبه» (تك3: 15).
وعبارة أنت تسحقين عقِبه تعني أن الشيطان سحق ناسوت المسيح فقط وليس لاهوته. في هذا قال أحد اللاهوتيين "الله لم يمت، ولكن الذي مات هو الله". وهذا التعبير قد يبدو صعباً، لكن هذا ما حدث حقاً. فالله لا يموت، لأن له وحده عدم الموت، لكن هل الذي مات كان مجرد إنسان عادي؟ لو كان إنساناً عادياً لما استطاع أن يخلصنا. ومع ذلك يجب أن نميز بين اللاهوت والناسوت.. الله لم يمت، الناسوت هو الذي مات، فالشيطان لم يسحق رأس المسيح، لأن «رأسه ذهب إبريز» (نش5: 11) – إشارة إلى لاهوته - بل ولا يستطيع أحد أن يفعل ذلك، إنما كل ما فعله الشيطان هو أنه سحق عقبه؛ أي ناسوته.
ونحن لا نهون مطلقاً من تلك الآلام. فعندما نتأمل المسيح يقول هنا «أما أنا فدودة لا إنسان»، مجرد دودة تحتقر من الناس، وبالأقدام تداس! يستهزئ به، يضرب بالقصبة على وجهه؛ من يصدق هذا الخبر، أن الخالق العظيم المجيد، الذي لا تستطيع الملائكة أن تنظر إليه، يهان مـن البشر!!
المهان النفس
إننا في تعجب نتساءل: ما هذه المحبة التي جعلت المسيح يهان من صنعة يديه ؟! لكننا في نفس الوقت ندرك شيئاً من معنى قول المسيح عن ساعة الصليب «الآن دينونة هذا العالم» (يو12: 31). ليس لحظة توقيع الحكم على العالم، فهذه لم تتم بعد، بل إن العالم في الصليب فُضحت سماته الحقيقية، وتعرى من الورقة الأنيقة التي تخفي عيوبه. ففي صليب المسيح اتضح كم العالم واقع بالتمام في قبضة الشيطان الذي جنده بالكامل ليصلب ابن الله. لقد ظهر فساد ساسته، وخبث ديانته، واتضح كم العامة والخاصة من البشر هم سواء بسواء!
بل اتضح أيضاً بشاعة قلبي وقلبك. فهل رأيت صورتي وصورتك هناك أيها القارئ العزيز؟! يسأل المرنم قائلاً: هل رأيت نفسك فيمن صلبوه؛ نفسك بين الذين قد عذبوه ؟!
إنها قصة مأساوية حقا! وإن كنا نندهش عجباً من شر الإنسان فإننا نندهش أكثر جداً من محبة الفادي المنان. ترى من أي شيء نتعجب أكثر؛ قساوة الإنسان من نحو المسيح، أم محبة الفادي الجريح؟!
يقول المسيح «كل الذين يرونني يستهزئون بي» من يصدق هذا؛ الأغنياء والفقراء، علية القوم والأدنياء، اليهود والأمم، الواقفون والعابرون، كل من يرى مسيح الله يستهـزئ به!
«يفغرون الشفاه وينغضون الرأس» أي يظهرون حركات استنكار وتهكم « قائلين: اتكل على الرب فلينجه، لينقذه لأنه سُـرّ به».
يا لقساوتكم أيها الرومان! يا لبغيكم أيها اليهود! أما كفاكم قتله مصلوباً، حتى تضيفون إلى جريمتكم الكبرى جريمة أخرى هي الاستهزاء به؟! بل ويا للعجب فحتى اللصان اللذان صلبا معه كانا يعيرانه!
في أول المزامير المسياوية؛ وهو المزمور الثاني نقرأ شيئاً مختلفاً تماماً إذ يقول «الساكن في السماوات يضحك، الرب يستهزئ بهم» فلابد أن يأتي اليوم الذي فيه يستهزئ الرب بالأشرار الذين رفضوا ابنه. لكننا هنا نرى الأشرار وهم يستهزئون بابن الله !
والعبارات التي استخدمها أولئك المستهزئون هي نفس العبارات التي سجلها البشير متى. كأن الأشرار كانوا يتممون ما ورد في مزمور22. لقد كانوا يرددون عبارات السخرية القاسية وهم لا يدرون أنهم وإن كانوا بأيدي أثمة صلبوه وقتلوه، لكنهم كانوا يفعلون مشورة الله المحتومة وعلمه السابق (أع2: 23)، نعم فعلوا كل ما سبقت فعينت يد الله ومشورته أن يكون (أع4: 28).
القصة من البداية
ولنتحول الآن إلى القصة العجيبة بدءاً من بيت لحم والناصرة كما يرويها المسيح هنا بروح النبوة:
«لأنك جذبتني من البطن. جعلتني مطمئنا على ثديي أمي. عليك ألقيت من الرحم. من بطن أمي أنت إلهي».
ربما لم يكن للمطوبة العذراء مريم، نظراً لفقرها الشديد، وتغربها في بيت لحم، بعيداً عن مدينتها الناصرة، حيث لا صديقات لها أو معارف، نقول ربما لم يكن لها قابلة تساعدها في الولادة، وتتلقى المولود عندما يخرج من البطن. لكن ها المسيح يقول لله «لأنك أنت جذبتني من البطن .. عليك ألقيت من الرحم».
والمسيح وهو يذكر هذا هنا، ويتذكره وهو في ساعات الألم، كأنه يقول لإلهه: في البداية لم يكن لي سواك، وإلى النهاية ليس لي إلاك. فلماذا تركتني؟
وما أعجب ما يضيفه المسيح بعد ذلك؛ فبعد أن قال «لأنك أنت جذبتني من البطن» يضيف قائلاً «جعلتني مطمئناً على ثديي أمي». ولعل الصبي الصغير يسوع أحس بشعور الفزع الذي انتاب كل من يوسف النجار والمطوبة مريم عند هروبهما به إلى مصر. أما هو فكان له في أثناء ذلك شعور مختلف، فيقول هنا «جعلتني مطمئناً على ثديي أمي»!
ويلذّ لنا أن نشير إلى طابع الطمأنينة المثلثة التي ميزت كل مسيرة ذلك المتكل الأعظم، من بدايتها وحتى نهايتها، كما ورد في المزامير4، 16، 22
في البداية (كما نقرأ هنا)، وهو صبي صغير مطارد من ملك شرير ودموي؛ كان مطمئناً على ثديي أمه. ثم على طول الرحلة، أمام تقلبات الحياة وظروفها الصعبة كما نقرأ في مزمور4: 8 نجد نوم الطمأنينة في وسط الخوف العظيم، وهو ما نرى عينة له في نوم المسيح وسط البحر الهائج في السفينة الصغيرة (مر4: 38). وأخيراً في مزمور16 نجده أمام مشهد الموت يمضي بثقة بل وبفرح، وحتى جسده كان سيسكن مطمئناً، لأن الرب لن يترك نفسه في الهاوية ولن يدع قدوسه يرى فساداً.
والمسيح فريد في كل شيء وليس له نظير. فهو ليس مثل البشر ولا حتى مثل أبطال الإيمان، إنه رئيس الإيمان ومكمله. فلقد كان موسى مثلاً أحلم جميع الناس الذين كانوا على وجه الأرض (عد12: 3)، لكنه في يوم بليته طلب الموت (عد11: 15). ومكتوب أنهم «أمرّوا روحه حتى فرط بشفتيه» (مز106: 33). ونفس الشيء حصل من أيوب رغم قول الوحي «سمعتم بصبر أيوب» (يع 5: 11). لكن عندما اشتدت عليه التجربة فتح فمه وسب يومه. وقال «ليته هلك اليوم الذي وُلدت فيه. لمَ لمْ أمت من الرحم، عندما خرجت من البطن لمَ لمْ أسلم الروح» (أي3: 1-9)، وهكذا فعل إرميا أيضاً (إر20: 14-18). أما المسيح ففي يوم الجلجثة يقول للرب من بطن أمي أنت إلهي. فما أروعه!!
وعندما يقول المسيح «من بطن أمي أنت إلهي» فواضح أنه يشير إلى ناسوته. ولو أنه في نفس الوقت من بطن أمه هـو الرب.
نتذكر عندما ذهبت المطوبة مريم لتزور نسيبتها أليصابات، فإن الجنين الذي في بطن أليصابات ارتكض بابتهاج وقالت «من أين لي هذا أن تأتي أم ربي إلىّ؟» (لو1: 43). فأليصابات تقول عنه وهو ما زال في البطن «ربي»؛ من بطن أمه هو رب، ومن بطن أمه الرب هو إلهه!! أليس هذا هو السر العظيم «بالإجماع عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد» (1تي3: 16). فباعتباره الله تستطيع أليصابات أن تقول عنه «ربي»، ومن جهة ناسوته يقول عن الرب إنه إلهه، وهذا ما كان يحير وما زال يحير الكثيرين. «ماذا تظنون في المسيح؟ ابن من هو؟ قالوا له ابن داود . قال فكيف يدعوه داود بالروح رباً قائلاً : قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعدائك موطئاً لقدميك. فإن كان داود يدعوه رباً فكيف يكون ابنه» (مت22: 42 - 45).
فقبل أن يولد المسيح بألف عام قال عنه داود «ربي»، وقبل أن يولد بشهور قالت عنه أليصابات «ربي»، وفي القيامة قال عنه توما «ربي وإلهي» (يو20: 28)، وبعد أن صعد إلى المجد قال عنه الرسول بولس «يسوع المسيح ربي» (في3: . واليوم «كل من يدعو باسم الرب يخلص» (رو10: 13)، وغداً سيعترف كل لسان أن يسوع رب (في2: 11). لكن في هذه الأعداد التي تُحدثنا عن سحق الشيطان لناسوت المسيح بقول - تبارك اسمه - لله «من بطن أمي أنت إلهي».
تفصيلات الألم
ثم يلجأ المسيح في الأقوال التالية إلى التفصيلات:
ففي الأعداد من 12-15 يشير إلى شعب اليهود.
وفي الأعداد من 16-20 يشير إلى الأمم.
ثم في ع21 يشير إلى زعيمهم، الذي يعمل فيهم ويعمل من خلفهم جميعاً؛ أعني الشيطان.
وقبل التأمل في هذه الآيات الثمينة التي تشرح لنا تفصيلات الألم آية آية، والتي فيها نرى ما صار لمعبود القلب على أيدي خبثاء القلب القساة، نتذكر يوسف عندما ذهب ليفتقد سلامة اخوته، فإنهم عندما رأوه من بعيد قالوا «هوذا هذا صاحب الأحلام قادم. فالآن هلم نقتله». وكم كان قاسياً علي يوسف أن يعامل من إخوته بمثل هذه المعاملة القاسية؛ ينزعون عنه القميص الملون ويطرحونه في البئر ويبيعونه بعشرين من الفضة، ويرون ضيقة نفسه ولا يرحمونه. كان هذا مؤلماً على نفسية يوسف. لكن يوسف هو أولاً وأخيراً إنسان، مقرص من الطين نظيرنا. أما المسيح فليس كذلك، إنه ابن محبة الآب، وموضوع تعبد الملائكة. إنه «الصانع ملائكته رياحاً وخدامه لهيب نار» (عب1: 7). وهو لم يأت فقط ليفتقد بل ليفتدي. جاء ليساعد الإنسان ويخلصه. فماذا فعلوا به؟
أحياناً يقول الواحد منا: ماذا فعلت كي أعامل بمثل هذه المعاملة؟ وقد تكون الإجابة إنك لم تفعل شيئاً تستحق بسببه أن يفعلوا بك ما فعلوا. أما المسيح فليس كذلك، فهو ليس فقط لم يفعل ما يستحق من أجله المعاملة القاسية، بل عمل كل ما يستحق من أجله الإكرام والحب. قال مرة لليهود «أعمالاً كثيرة حسنة أريتكم من عند أبي بسبب أي عمل منها ترجمونني» (يو10: 32). وقال عنه بطرس «الذي جال يصنع خيراً ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس لأن الله كان معه.. صلبوه معلقين إياه على خشبه» (أع10: 38). حقاً تمت فيه كلمات المزمور «بدل محبتي يخاصمونني .. وضعوا على شراً بدل خير وبغضاً بدل حبي» (مز 109: 4،5). فما أبشع قلب الإنسان الذي تعامل هكذا مع الذي جاء إليه ويده مملوءة بالخير والبركة.
يقول المسيح هنا في وصف آلامه:
«أحاطت بي ثيران كثيرة أقوياء باشان اكتنفتني، فغروا علي أفواههم كأسد مفترس مزمجر» (ع12،13)
تشتهر منطقة باشان بخصوبة مراعيها، والبقرات بها سمينة وتنطح. وثيران باشان صورة لقادة الأمة اليهودية كما نفهم من قول عاموس النبي «اسمعي هذا القول يا بقرات باشان التي في جبل السامرة» (عا1:4). وهم في هذا صورة للقوة الجامحة والكبرياء المتمردة!
هذا عن قوتهم، أما عن سلوكهم فيقال إن الثيران عندما تشاهد أي جسم غريب فإنها تحيط به في دائرة، ثم تهجم عليه مع أول إثارة، وتعمل فيه نطحاً وتنكيلاً. هكذا كان رؤساء أمة اليهود. لقد أحاطوا بالمسيح لاسيما في المحاكمة طالبين صلبه، مفضلين عليه رجلاً قاتلاً. لقد «فغروا (عليه) أفواههم كأسد مفترس مزمجر».
سيتحدث الرب بعد ذلك عن الجند الرومان قائلاً «أحاطت بي كلاب»، وهناك فارق بين الكلاب والأسد، فالكلاب تمزق بأنيابها، أما الأسد فإنه يفترس. فقد يلذ للجنود الرومان قساة القلب أن يجلدوا الرب يسوع، أما قادة الأمة اليهود فلم يكن يكفيهم أقل من قتله. وهؤلاء الذين كانوا كالنعامة الجبانة أمام بطش الرومان استأسدوا على حمل الله الوديع!
ثم يقول المسيح «كالماء انسكبت، انفصلت كل عظامي، صار قلبي كالشمع قد ذاب في وسط أمعائي» (ع14)
وعندما يقول المسيح «كالماء انسكبت» فهذه صورة لمنتهى الضعف؛ لأنه هل توجد صعوبة في سكب الماء؟ إن أضعف شخص بوسعه أن يفعل ذلك. وعندما ينسكب الماء يتبعثر إلى جهات شتى ويستحيل جمعه، كما أن سرعة الماء تزداد مع سقوطه، ولا توجد لديه أية إمكانية للتماسك، ولا لأن يرجع إلى وضعه الأول. وهذا كله صورة للضعف المتناهي.
لكن الماء المهراق ليس فقط صورة للضعف بل أيضاً لاستحالة جمعه من جديد. لقد أهرق وتبعثر وانتهى الأمر. قالت المرأة التقوعية لداود «لأنه لابد أن نموت ونكون كالماء المهراق على الأرض الذي لا يجمع أيضاً» (2صم14:14). هكذا ظن الأعداء أنهم تخلصوا من المسيح إلى الأبد، وأن أمره انتهى كالماء المهراق.
أليس عجيباً أن ذاك الذي اسمه دهن مهراق (نش1: 3)، من أجلي ومن أجلك صار كالماء المهراق !
ثم يستطرد المسيح فيقول «انفصلت كل عظامي» ما أشد الآلام التي نحس بها عندما تنخلع عظمة واحدة من مكانها. لكن المسيح لم تكن هناك عظمة واحدة في مكانها، وذلك من عملية الصلب القاسية. فما أعظم الآلام التي كان المسيح يعانيها.
ثم إن العظام هي التي تعطي الهيئة العامة للإنسان. وأن تنفصل العظام كلها يعني أن الجسد لم يصبح له أي شكل على الإطلاق! لقد قال عنه النبي «كان منظره كذا مفسداً أكثر من الرجل وصورته أكثر من بني آدم» (إش52: 14). فالوجه الجميل فسد، والهيئة العامة تلفت تماماً.
ثـم يقـول:
«صار قلبي كالشمع. قد ذاب في وسط أمعائي»
أسد سبط يهوذا ذاب قلبه في يوم حمو غضب الله (نا1: 7). فماذا سيفعل الخاطئ في ذلك اليوم العصيب؟ «لأنه قد جاء يوم غضبه العظيم ومن يستطيع الوقوف؟» (رؤ15:6-17).
يتحدث المرنم عن يوم ظهور الرب فيقول «ذابت الجبال مثل الشمع قدام الرب قدام سيد الأرض كلها» (مز5:97). وليس فقط الجبال ستذوب في ذلك اليوم، بل تفكر في مصير الخطاة الآثمين الذين رفضوا محبته والإيمان بصليبه. يقول الكتاب «لحمهم يذوب وهم واقفون على أقدامهم، وعيونهم تذوب في أوقابها، ولسانهم يذوب في فمهم». (زك12:14). أما في يوم الصليب العصيب فقد ذاب قلب المسيح في داخله.
فإذا أضفنا الشمع الذائب إلى الماء المهراق والعظام المنفصلة نحصل على ثلاثية تؤكد نفس الفكرة؛ عدم وجود هيئة ولا كيان محدد للمسيح، ليس خارجياً فقط، بل وداخلياً كـذلك.
يواصل المسيح وصف آلامه فيقول «يبست مثل شقفة قوتي ولصق لساني بحنكي وإلى تراب الموت تضعني» (ع15).
مرة أخرى تعجبي يا نفسي. إن ذاك الكلي القدرة «هو.. شديد القوة. من تصلب عليه فسلم. المزحزح الجبال ولا تعلم، الذي يقلبها في غضبه، المزعزع الأرض من مقرها فتتزلزل أعمدتها. الآمر الشمس فلا تشرق ويختم على النجوم. الباسط السماوات وحده، والماشي على أعالي البحر، صانع النعش والجبار والثريا ومخادع الجنوب، فاعل عظائم لا تفحص وعجائب لا تعد» (أي9: 4-10) ها هو يقول يبست مثل شقفة قوتي!! مجرد شقفة يابسة، يسهل كسـرها!!
في مزمور 102 نسمعه كالمسكين الذي أعيا يقول «ضعَّف في الطريق قوتي، قصَّر أيامي»، فيجيبه الله «من قدم أسست الأرض، والسماوات هي عمل يديك». فذاك الذي تعلن السماوات والأرض قدرته السرمدية ولاهوته، كان في بستان جثسيماني مسكيناً أعيا، يصلى إلى إلهه. وهناك في البستان ظهر له ملاك من السماء ليقويه! وأما الآن وهو فوق الصليب فإنه يصرخ إلى إلهه، وهو بدون قوة على الإطلاق.
أما لسانه، فإنه من سعير النيران التي تحملها، فقد لصق بحنكه. وإننا مرة أخرى نتساءل؛ من هذا الذي نراه هنا بحنك يابس؟ إنه الذي كال بكفه المياه (إش40: 12)، الذي يروي أتلام الأرض وبالغيوث يحللها (مز65: 10). إنه المفجر عيوناً في الودية بين الجبال تجري، تسقي كل حيوان البر، تكسر الفراء ظمأها (مز104: 10،11). ولقد صار حنكه يابساً من هول ما احتمل من سعير رهيب. إن نار الله التي نزلت في أيام إيليا وأكلت المحرقة والحطب والحجارة والتراب ولحست المياه (1مل18: 38)، هي التي احتملها بديلنا القدوس على الصليب. فهو خروف الفصح الحقيقي الذي لم يكن يطبخ بالماء بل يشوى بالنار (خر12: 8،9). وهذا هو فعل النار فيه. وهو إن كان أتى على كل نيران غضب الله وأمكنه أن يقول «قد أكمل»، لكن بعدها مباشرة أتت النهاية؛ حيث يقول «إلى تراب الموت تضعني»!
«لأنه قد أحاطت بي كلاب. جماعة من الأشرار اكتنفتني، ثقبوا يدي ورجلي» (ع16).
سبق في ع12 أن قال «أحاطت بي ثيران»، هذه تمثل قادة الأمة الإسرائيلية، أما في ع16 فيقول «أحاطت بي كلاب» وهؤلاء يمثلون الأمم (انظر متى 26:15). من أجل ذلك يقول بعدها مباشرة «ثقبوا يدي ورجلي»، والذي فعل ذلك هم الجنود الرومان.
ولقد كان الصيادون يستخدمون الكلاب المدربة لتحيط بالفريسة التي يريدون الإيقاع بها. هذا ما فعله صياد البشر الأكبر (الشيطان) عند الصليب، إذ استخدم أعوانه الأشرار والقتلة نظيره. وإذا كانت الكلاب المدربة تمزق فرائسها بأنيابها، فإن هؤلاء مزقوا المسيح بسياطهم ومساميرهم وشـوكهم!
«ثقبوا يدي ورجلي»
ما أقسى عملية الصلب. فأن تثقب اليدان والرجلان، هذه المناطق الممتلئة بالأعصاب الحساسة، التي عندما تتهيج ينتج عنها آلام تفوق الوصف، يعبِّر عنها لا إرادياً تحرك كل عضلات الوجه، ناطقة بقسوة الألم وقد جاوز الحد.
هاتان اليدان اللتان لم تكلا مطلقاً من فعل الخير العميم وشفاء جرح المتعبين، والرجلان اللتان حملتاه عبر طرق العالم المتربة المتعبة وصولاً لكل بائس محتاج. ماذا فعل بهـا البشر؟
سمروها فوق الخشب؟! آه ما أقسى أيادي صنعت هذا العجـب!
إننا يا فادينا المعبود لن ننسى مطلقا موت الصلب، سنظل كوصيتك العزيزة علينا نصنع ذكراك في كل أول أسبوع، ونخبر بموتك إلى أن تجيء. ونحن نعرف أنك في عشية يوم القيامة ظهرت لتلاميذك وأريتهم يديك ورجليك (لو24: 39،40)، ولازلت ترينا نفس هذا المنظر الأثير. بل إننا عندما نصل إلى المجد سنراك كخروف قائم كأنك مذبوح، وهناك أيضا لن ننسى موت الصليب!
«أحصي كل عظامي. وهم ينظرون ويتفرسون فيَّ» (ع17).
والعبارة الأولى تدل على مقدار نحافته، فهو باللغة الدارجة "جلد على عظم"، ذاك الذي غيرة بيت الله أكلته والتهمته التهاماً.
أما العبارة الثانية فيعبر المسيح فيها عن آلام نفسه الحساسة عندما أطال الأشرار نظراتهم الوقحة لجسده الذي علق عارياً فوق الصليب. آه، لو عرفوا من هذا الذين يتفرسون فيه هكذا بلا خجل أو حياء، لو عرفوا أنه الذي تغطي الملائكة وجوهها أمام هيبته، لو عرفوا أنهم سيقفون يوماً أمامه ليدانوا، وفي ذلك اليوم الذي فيه سيجلس على العرش العظيم الأبيض ستهرب من وجهه السماوات والأرض! نعم، «لو عرفوا لما صلبوا رب المجد» (1كو2: !
والنظرات إلى الصليب والمصلوب أنواع كثيرة في الكتاب؛ فهناك النظرة المحيية (عد21: 8، يو3: 14،15)، المخلصة (إش45: 22)، المبارِكة (مز41: 1). لكن هذه النظرة المذكورة هنا نظرة مهلكة ستجلب على أصحابها أشد الويلات. نتذكر قديما أن أهل بيت شمس تجاسروا في جهل عدم الإيمان ونظروا إلى التابوت، تلك القطعة المقدسة في بيت الله التي ترمز وتشير إلى المسيح، فمات منهم الآلاف الكثيرة (1صم6: 19). لكن لما جاء رب المجد نفسه، في يوم ضعفه، فقد علقوه على الصليب، وأخذوا ينظرون ويتفرسون فيه.
لكن مجداً لله، فكما تنبت الزنبقة البيضاء الطاهرة وسط الأوحال، هكذا أيضاً بين نظرات الأشرار الوقحة في يوم الصلب، كان هناك فريق آخر له النظرة المقدسة، فيخبرنا لوقا أن جميع معارفه ونساء كن قد تبعنه من الجليل كانوا واقفين من بعيد ينظرون ذلك (لو23: 49). ونحن أيضاً مع هذا الفريق ننظر ونتفرس، لكن ما أبعد الفارق بين نظرات ونظرات؛ نظرات الشماتة والجحود، ونظرات التعبد والسجود.
ثم يقول المسيح: «يقسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون» (ع18).
ولقد أشير إلى هذا العمل في كل البشائر (مت27: 35، مر15: 24، لو23: 34، يو19: 24). لقد قدر هؤلاء العسكر اللباس ولم يقدروا صاحبه. عرفوا قيمة الثوب غير المخيط، المنسوج من فوق إلى أسفل، ولم يعرفوا ما كان يصنعه المصلوب إذ كان ينسج للإنسان العاري ثوب بر إلهي بغير خياطة بشرية.
ويا للمفارقة الكبيرة بين آدم الذي جلب على نفسه وعلى نسله العري والعار، بل الهلاك والدمار، وبين آدم الأخير الذي لأجلنا تعرى كيما يكسو عرينا برداء البر الثمين، ويمتعنا بالحلة الأولى، كيما نسعد معه في بيت الآب إلى أبد الآبـدين.
ثم يختم المسيح كلامه في هذا القسم الأول بالقول:
«أما أنت يا رب فلا تبعد، يا قوتي أسرع إلى نصرتي. أنقذ من السيف نفسي، من يد الكلب وحيدتي، خلصني من فم الأسد، ومن قرون بقر الوحش استجب لي» (ع19-21).
ولقد سبق أن أشرنا إلى أن القسم الأول من المزمور (ع1-21) يصور لنا آلام المسيح الثلاثية المصدر؛ من الله والإنسان والشيطان. وها المسيح في ختام زفرات الألم يلخص تلك الآلام طالباً من الرب إلهه أن ينقذه من ثلاثة أمـور
«أنقذ من السيف نفسي»: إنه سيف العدل الإلهي؛ سيف لهيب النار الذي نقرأ عنه في تكوين3: 24، وزكريا 13: 7.
«من يد الكلب وحيدتي» : هنا نرى شراسة الإنسان، لا سيما الأمم وعلى رأسهم بيلاطس البنطي.
«خلصني من فم الأسد» : بطش الشيطان، الذي هو كأسـد زائر.
من هذه الثلاثية القاسية طلب المسيح من إلهه الإنقاذ؛ أن ينقذ من عدالة الله، وقساوة الإنسان، وبطش الشيطان. وسوف نرى في الفصل القادم كيف سمع له الله من أجل تقواه.
مزمور22: 4-21
دعونا مرة أخرى ننظر إلى هذا المنظر العجيب، الذي لن نصل مطلقاً إلى عمقه أو قراره طالما نحن في الأرض، ولن نمل من التأمل فيه طوال فترة وجودنا في البرية وفي الغربة، حتى نصل إلى السماء. وماذا ستكون السماء؟ وما هي الأبدية؟ إنها جلسة متصلة حول الخروف المذبوح (رؤيا 5). فهل سنستطيع في الأبدية أن نصل إلى قرار أعماق محبة المسيح لنا؟ كلا، بل ستظل محبة المسيح فائقة المعرفة، وستظل أسرار الصليب فوق أفهامنا.
وسننشغل في هذا الفصل بالتأمل في آلام المسيح التي احتملها من يد الإنسان، وهذه الآلام مذكورة في هذا المزمور من ع4-21 وقد تمت في دقة عجيبة بعد نحو ألف سنة في الرب يسوع عندما كان معلقاً فوق الصليب.
دودة لا إنسان !
تفتتح هذه الأعداد موضوع دراستنا الآن بهذه العبارة المذيبة التي سبق لنا التأمل فيها «أما أنا فدودة لا إنسان».
من هو الذي يقول هذا ؟ إنه مبدع الكون القدير. تأملي يا نفسي في هذا اللغز العجيب واخشعي!
وكلمة دودة نطقها بالعبري "تولع"، هو اسم أحد قضاة إسرائيل (قض10: 1)، ويعتبر رمزاً لقاضي إسرائيل الحقيقي لكن المرفوض (مي5: 1). ويستخدم هذا الاسم للتعبير عن ديدان صغيرة حمراء اللون، تجمع بهز الشجر الذي توجد فيه، وعندما تسحق تلك الديدان تتخضب تماماً بالدم القاني، مما يذكرنا برجل الأحزان الذي لأجلنا كان دامي الرأس والظهر واليدين والرجلين والجنب، وذلك من آثار الشوك والسياط والمسامير والحربة. أما سحق تلك الديدان فكان يعطي أفخر الصبغات الحمراء الزاهية، والتي يشار إليها في نبوة إشعياء باسم «الدودي»، أو «القرمز» (إش 1: 18). ولقد كانت هذه الصبغة مكلفة وغالية، وكان يصنع منها ثياب الملوك والأمراء. وهكذا سحق ربنا يسوع تبارك اسمه حتى نلبس نحن المجد والبهاء !
عندما مات شاول الملك، رثاه داود بالقول «يا بنات أورشليم ابكين شاول الذي ألبسكن قرمزاً بالتنعم» (2صم1: 24). لكن الواقع إنه ليس شاول هو الذي عزز بنات أورشليم (قارن 1 صم8: 13)، بل إن الذي كسانا بالعز حقاً هو المسيح.
لقد قبل ذاك المجيد الذي تتعبد له الملائكة أن يتألم وأن يهان من أجلنا حتى ما نرتدي نحن الحلة الأولى. قبل أن يسحق من أجل آثامنا. وهل هناك ثمة صعوبة في سحق دودة؟! أيحتاج ذلك إلى قوة أو جبروت؟ في الواقع ما أسهل أن تسحق دودة. وماذا تستطيع تلك الدودة أن تفعل سوى أن تتألم وأن تعاني ؟! والرب تبارك اسمه ارتضى أن يكون كذلك. ومع أن بيلاطس قال عنه في المحاكمة «هوذا الإنسان»، لكنه الآن وهو معلق فوق عود الصليب يقول عن نفسه «أما أنا فدودة لا إنسان»!
لقد سبق أن رأينا كيف سحق الله المسيح وهو فوق الصليب، والسبب لذلك هو خطايانا. يقول الوحي «وهو مجروح من أجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا .. أما الرب فسر بأن يسحقه بالحزن» (إش53: 5،10). لكننا الآن سنرى كيف استخدم الشيطان البشر جميعهم في سحق رجل الأحزان ربنا يسوع المسيح، فتمت الكلمات التي كان الرب الإله قد قالها في الجنة للحية «أضع عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها هو يسحق رأسك وأنت تسحقين عقبه» (تك3: 15).
وعبارة أنت تسحقين عقِبه تعني أن الشيطان سحق ناسوت المسيح فقط وليس لاهوته. في هذا قال أحد اللاهوتيين "الله لم يمت، ولكن الذي مات هو الله". وهذا التعبير قد يبدو صعباً، لكن هذا ما حدث حقاً. فالله لا يموت، لأن له وحده عدم الموت، لكن هل الذي مات كان مجرد إنسان عادي؟ لو كان إنساناً عادياً لما استطاع أن يخلصنا. ومع ذلك يجب أن نميز بين اللاهوت والناسوت.. الله لم يمت، الناسوت هو الذي مات، فالشيطان لم يسحق رأس المسيح، لأن «رأسه ذهب إبريز» (نش5: 11) – إشارة إلى لاهوته - بل ولا يستطيع أحد أن يفعل ذلك، إنما كل ما فعله الشيطان هو أنه سحق عقبه؛ أي ناسوته.
ونحن لا نهون مطلقاً من تلك الآلام. فعندما نتأمل المسيح يقول هنا «أما أنا فدودة لا إنسان»، مجرد دودة تحتقر من الناس، وبالأقدام تداس! يستهزئ به، يضرب بالقصبة على وجهه؛ من يصدق هذا الخبر، أن الخالق العظيم المجيد، الذي لا تستطيع الملائكة أن تنظر إليه، يهان مـن البشر!!
المهان النفس
إننا في تعجب نتساءل: ما هذه المحبة التي جعلت المسيح يهان من صنعة يديه ؟! لكننا في نفس الوقت ندرك شيئاً من معنى قول المسيح عن ساعة الصليب «الآن دينونة هذا العالم» (يو12: 31). ليس لحظة توقيع الحكم على العالم، فهذه لم تتم بعد، بل إن العالم في الصليب فُضحت سماته الحقيقية، وتعرى من الورقة الأنيقة التي تخفي عيوبه. ففي صليب المسيح اتضح كم العالم واقع بالتمام في قبضة الشيطان الذي جنده بالكامل ليصلب ابن الله. لقد ظهر فساد ساسته، وخبث ديانته، واتضح كم العامة والخاصة من البشر هم سواء بسواء!
بل اتضح أيضاً بشاعة قلبي وقلبك. فهل رأيت صورتي وصورتك هناك أيها القارئ العزيز؟! يسأل المرنم قائلاً: هل رأيت نفسك فيمن صلبوه؛ نفسك بين الذين قد عذبوه ؟!
إنها قصة مأساوية حقا! وإن كنا نندهش عجباً من شر الإنسان فإننا نندهش أكثر جداً من محبة الفادي المنان. ترى من أي شيء نتعجب أكثر؛ قساوة الإنسان من نحو المسيح، أم محبة الفادي الجريح؟!
يقول المسيح «كل الذين يرونني يستهزئون بي» من يصدق هذا؛ الأغنياء والفقراء، علية القوم والأدنياء، اليهود والأمم، الواقفون والعابرون، كل من يرى مسيح الله يستهـزئ به!
«يفغرون الشفاه وينغضون الرأس» أي يظهرون حركات استنكار وتهكم « قائلين: اتكل على الرب فلينجه، لينقذه لأنه سُـرّ به».
يا لقساوتكم أيها الرومان! يا لبغيكم أيها اليهود! أما كفاكم قتله مصلوباً، حتى تضيفون إلى جريمتكم الكبرى جريمة أخرى هي الاستهزاء به؟! بل ويا للعجب فحتى اللصان اللذان صلبا معه كانا يعيرانه!
في أول المزامير المسياوية؛ وهو المزمور الثاني نقرأ شيئاً مختلفاً تماماً إذ يقول «الساكن في السماوات يضحك، الرب يستهزئ بهم» فلابد أن يأتي اليوم الذي فيه يستهزئ الرب بالأشرار الذين رفضوا ابنه. لكننا هنا نرى الأشرار وهم يستهزئون بابن الله !
والعبارات التي استخدمها أولئك المستهزئون هي نفس العبارات التي سجلها البشير متى. كأن الأشرار كانوا يتممون ما ورد في مزمور22. لقد كانوا يرددون عبارات السخرية القاسية وهم لا يدرون أنهم وإن كانوا بأيدي أثمة صلبوه وقتلوه، لكنهم كانوا يفعلون مشورة الله المحتومة وعلمه السابق (أع2: 23)، نعم فعلوا كل ما سبقت فعينت يد الله ومشورته أن يكون (أع4: 28).
القصة من البداية
ولنتحول الآن إلى القصة العجيبة بدءاً من بيت لحم والناصرة كما يرويها المسيح هنا بروح النبوة:
«لأنك جذبتني من البطن. جعلتني مطمئنا على ثديي أمي. عليك ألقيت من الرحم. من بطن أمي أنت إلهي».
ربما لم يكن للمطوبة العذراء مريم، نظراً لفقرها الشديد، وتغربها في بيت لحم، بعيداً عن مدينتها الناصرة، حيث لا صديقات لها أو معارف، نقول ربما لم يكن لها قابلة تساعدها في الولادة، وتتلقى المولود عندما يخرج من البطن. لكن ها المسيح يقول لله «لأنك أنت جذبتني من البطن .. عليك ألقيت من الرحم».
والمسيح وهو يذكر هذا هنا، ويتذكره وهو في ساعات الألم، كأنه يقول لإلهه: في البداية لم يكن لي سواك، وإلى النهاية ليس لي إلاك. فلماذا تركتني؟
وما أعجب ما يضيفه المسيح بعد ذلك؛ فبعد أن قال «لأنك أنت جذبتني من البطن» يضيف قائلاً «جعلتني مطمئناً على ثديي أمي». ولعل الصبي الصغير يسوع أحس بشعور الفزع الذي انتاب كل من يوسف النجار والمطوبة مريم عند هروبهما به إلى مصر. أما هو فكان له في أثناء ذلك شعور مختلف، فيقول هنا «جعلتني مطمئناً على ثديي أمي»!
ويلذّ لنا أن نشير إلى طابع الطمأنينة المثلثة التي ميزت كل مسيرة ذلك المتكل الأعظم، من بدايتها وحتى نهايتها، كما ورد في المزامير4، 16، 22
في البداية (كما نقرأ هنا)، وهو صبي صغير مطارد من ملك شرير ودموي؛ كان مطمئناً على ثديي أمه. ثم على طول الرحلة، أمام تقلبات الحياة وظروفها الصعبة كما نقرأ في مزمور4: 8 نجد نوم الطمأنينة في وسط الخوف العظيم، وهو ما نرى عينة له في نوم المسيح وسط البحر الهائج في السفينة الصغيرة (مر4: 38). وأخيراً في مزمور16 نجده أمام مشهد الموت يمضي بثقة بل وبفرح، وحتى جسده كان سيسكن مطمئناً، لأن الرب لن يترك نفسه في الهاوية ولن يدع قدوسه يرى فساداً.
والمسيح فريد في كل شيء وليس له نظير. فهو ليس مثل البشر ولا حتى مثل أبطال الإيمان، إنه رئيس الإيمان ومكمله. فلقد كان موسى مثلاً أحلم جميع الناس الذين كانوا على وجه الأرض (عد12: 3)، لكنه في يوم بليته طلب الموت (عد11: 15). ومكتوب أنهم «أمرّوا روحه حتى فرط بشفتيه» (مز106: 33). ونفس الشيء حصل من أيوب رغم قول الوحي «سمعتم بصبر أيوب» (يع 5: 11). لكن عندما اشتدت عليه التجربة فتح فمه وسب يومه. وقال «ليته هلك اليوم الذي وُلدت فيه. لمَ لمْ أمت من الرحم، عندما خرجت من البطن لمَ لمْ أسلم الروح» (أي3: 1-9)، وهكذا فعل إرميا أيضاً (إر20: 14-18). أما المسيح ففي يوم الجلجثة يقول للرب من بطن أمي أنت إلهي. فما أروعه!!
وعندما يقول المسيح «من بطن أمي أنت إلهي» فواضح أنه يشير إلى ناسوته. ولو أنه في نفس الوقت من بطن أمه هـو الرب.
نتذكر عندما ذهبت المطوبة مريم لتزور نسيبتها أليصابات، فإن الجنين الذي في بطن أليصابات ارتكض بابتهاج وقالت «من أين لي هذا أن تأتي أم ربي إلىّ؟» (لو1: 43). فأليصابات تقول عنه وهو ما زال في البطن «ربي»؛ من بطن أمه هو رب، ومن بطن أمه الرب هو إلهه!! أليس هذا هو السر العظيم «بالإجماع عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد» (1تي3: 16). فباعتباره الله تستطيع أليصابات أن تقول عنه «ربي»، ومن جهة ناسوته يقول عن الرب إنه إلهه، وهذا ما كان يحير وما زال يحير الكثيرين. «ماذا تظنون في المسيح؟ ابن من هو؟ قالوا له ابن داود . قال فكيف يدعوه داود بالروح رباً قائلاً : قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعدائك موطئاً لقدميك. فإن كان داود يدعوه رباً فكيف يكون ابنه» (مت22: 42 - 45).
فقبل أن يولد المسيح بألف عام قال عنه داود «ربي»، وقبل أن يولد بشهور قالت عنه أليصابات «ربي»، وفي القيامة قال عنه توما «ربي وإلهي» (يو20: 28)، وبعد أن صعد إلى المجد قال عنه الرسول بولس «يسوع المسيح ربي» (في3: . واليوم «كل من يدعو باسم الرب يخلص» (رو10: 13)، وغداً سيعترف كل لسان أن يسوع رب (في2: 11). لكن في هذه الأعداد التي تُحدثنا عن سحق الشيطان لناسوت المسيح بقول - تبارك اسمه - لله «من بطن أمي أنت إلهي».
تفصيلات الألم
ثم يلجأ المسيح في الأقوال التالية إلى التفصيلات:
ففي الأعداد من 12-15 يشير إلى شعب اليهود.
وفي الأعداد من 16-20 يشير إلى الأمم.
ثم في ع21 يشير إلى زعيمهم، الذي يعمل فيهم ويعمل من خلفهم جميعاً؛ أعني الشيطان.
وقبل التأمل في هذه الآيات الثمينة التي تشرح لنا تفصيلات الألم آية آية، والتي فيها نرى ما صار لمعبود القلب على أيدي خبثاء القلب القساة، نتذكر يوسف عندما ذهب ليفتقد سلامة اخوته، فإنهم عندما رأوه من بعيد قالوا «هوذا هذا صاحب الأحلام قادم. فالآن هلم نقتله». وكم كان قاسياً علي يوسف أن يعامل من إخوته بمثل هذه المعاملة القاسية؛ ينزعون عنه القميص الملون ويطرحونه في البئر ويبيعونه بعشرين من الفضة، ويرون ضيقة نفسه ولا يرحمونه. كان هذا مؤلماً على نفسية يوسف. لكن يوسف هو أولاً وأخيراً إنسان، مقرص من الطين نظيرنا. أما المسيح فليس كذلك، إنه ابن محبة الآب، وموضوع تعبد الملائكة. إنه «الصانع ملائكته رياحاً وخدامه لهيب نار» (عب1: 7). وهو لم يأت فقط ليفتقد بل ليفتدي. جاء ليساعد الإنسان ويخلصه. فماذا فعلوا به؟
أحياناً يقول الواحد منا: ماذا فعلت كي أعامل بمثل هذه المعاملة؟ وقد تكون الإجابة إنك لم تفعل شيئاً تستحق بسببه أن يفعلوا بك ما فعلوا. أما المسيح فليس كذلك، فهو ليس فقط لم يفعل ما يستحق من أجله المعاملة القاسية، بل عمل كل ما يستحق من أجله الإكرام والحب. قال مرة لليهود «أعمالاً كثيرة حسنة أريتكم من عند أبي بسبب أي عمل منها ترجمونني» (يو10: 32). وقال عنه بطرس «الذي جال يصنع خيراً ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس لأن الله كان معه.. صلبوه معلقين إياه على خشبه» (أع10: 38). حقاً تمت فيه كلمات المزمور «بدل محبتي يخاصمونني .. وضعوا على شراً بدل خير وبغضاً بدل حبي» (مز 109: 4،5). فما أبشع قلب الإنسان الذي تعامل هكذا مع الذي جاء إليه ويده مملوءة بالخير والبركة.
يقول المسيح هنا في وصف آلامه:
«أحاطت بي ثيران كثيرة أقوياء باشان اكتنفتني، فغروا علي أفواههم كأسد مفترس مزمجر» (ع12،13)
تشتهر منطقة باشان بخصوبة مراعيها، والبقرات بها سمينة وتنطح. وثيران باشان صورة لقادة الأمة اليهودية كما نفهم من قول عاموس النبي «اسمعي هذا القول يا بقرات باشان التي في جبل السامرة» (عا1:4). وهم في هذا صورة للقوة الجامحة والكبرياء المتمردة!
هذا عن قوتهم، أما عن سلوكهم فيقال إن الثيران عندما تشاهد أي جسم غريب فإنها تحيط به في دائرة، ثم تهجم عليه مع أول إثارة، وتعمل فيه نطحاً وتنكيلاً. هكذا كان رؤساء أمة اليهود. لقد أحاطوا بالمسيح لاسيما في المحاكمة طالبين صلبه، مفضلين عليه رجلاً قاتلاً. لقد «فغروا (عليه) أفواههم كأسد مفترس مزمجر».
سيتحدث الرب بعد ذلك عن الجند الرومان قائلاً «أحاطت بي كلاب»، وهناك فارق بين الكلاب والأسد، فالكلاب تمزق بأنيابها، أما الأسد فإنه يفترس. فقد يلذ للجنود الرومان قساة القلب أن يجلدوا الرب يسوع، أما قادة الأمة اليهود فلم يكن يكفيهم أقل من قتله. وهؤلاء الذين كانوا كالنعامة الجبانة أمام بطش الرومان استأسدوا على حمل الله الوديع!
ثم يقول المسيح «كالماء انسكبت، انفصلت كل عظامي، صار قلبي كالشمع قد ذاب في وسط أمعائي» (ع14)
وعندما يقول المسيح «كالماء انسكبت» فهذه صورة لمنتهى الضعف؛ لأنه هل توجد صعوبة في سكب الماء؟ إن أضعف شخص بوسعه أن يفعل ذلك. وعندما ينسكب الماء يتبعثر إلى جهات شتى ويستحيل جمعه، كما أن سرعة الماء تزداد مع سقوطه، ولا توجد لديه أية إمكانية للتماسك، ولا لأن يرجع إلى وضعه الأول. وهذا كله صورة للضعف المتناهي.
لكن الماء المهراق ليس فقط صورة للضعف بل أيضاً لاستحالة جمعه من جديد. لقد أهرق وتبعثر وانتهى الأمر. قالت المرأة التقوعية لداود «لأنه لابد أن نموت ونكون كالماء المهراق على الأرض الذي لا يجمع أيضاً» (2صم14:14). هكذا ظن الأعداء أنهم تخلصوا من المسيح إلى الأبد، وأن أمره انتهى كالماء المهراق.
أليس عجيباً أن ذاك الذي اسمه دهن مهراق (نش1: 3)، من أجلي ومن أجلك صار كالماء المهراق !
ثم يستطرد المسيح فيقول «انفصلت كل عظامي» ما أشد الآلام التي نحس بها عندما تنخلع عظمة واحدة من مكانها. لكن المسيح لم تكن هناك عظمة واحدة في مكانها، وذلك من عملية الصلب القاسية. فما أعظم الآلام التي كان المسيح يعانيها.
ثم إن العظام هي التي تعطي الهيئة العامة للإنسان. وأن تنفصل العظام كلها يعني أن الجسد لم يصبح له أي شكل على الإطلاق! لقد قال عنه النبي «كان منظره كذا مفسداً أكثر من الرجل وصورته أكثر من بني آدم» (إش52: 14). فالوجه الجميل فسد، والهيئة العامة تلفت تماماً.
ثـم يقـول:
«صار قلبي كالشمع. قد ذاب في وسط أمعائي»
أسد سبط يهوذا ذاب قلبه في يوم حمو غضب الله (نا1: 7). فماذا سيفعل الخاطئ في ذلك اليوم العصيب؟ «لأنه قد جاء يوم غضبه العظيم ومن يستطيع الوقوف؟» (رؤ15:6-17).
يتحدث المرنم عن يوم ظهور الرب فيقول «ذابت الجبال مثل الشمع قدام الرب قدام سيد الأرض كلها» (مز5:97). وليس فقط الجبال ستذوب في ذلك اليوم، بل تفكر في مصير الخطاة الآثمين الذين رفضوا محبته والإيمان بصليبه. يقول الكتاب «لحمهم يذوب وهم واقفون على أقدامهم، وعيونهم تذوب في أوقابها، ولسانهم يذوب في فمهم». (زك12:14). أما في يوم الصليب العصيب فقد ذاب قلب المسيح في داخله.
فإذا أضفنا الشمع الذائب إلى الماء المهراق والعظام المنفصلة نحصل على ثلاثية تؤكد نفس الفكرة؛ عدم وجود هيئة ولا كيان محدد للمسيح، ليس خارجياً فقط، بل وداخلياً كـذلك.
يواصل المسيح وصف آلامه فيقول «يبست مثل شقفة قوتي ولصق لساني بحنكي وإلى تراب الموت تضعني» (ع15).
مرة أخرى تعجبي يا نفسي. إن ذاك الكلي القدرة «هو.. شديد القوة. من تصلب عليه فسلم. المزحزح الجبال ولا تعلم، الذي يقلبها في غضبه، المزعزع الأرض من مقرها فتتزلزل أعمدتها. الآمر الشمس فلا تشرق ويختم على النجوم. الباسط السماوات وحده، والماشي على أعالي البحر، صانع النعش والجبار والثريا ومخادع الجنوب، فاعل عظائم لا تفحص وعجائب لا تعد» (أي9: 4-10) ها هو يقول يبست مثل شقفة قوتي!! مجرد شقفة يابسة، يسهل كسـرها!!
في مزمور 102 نسمعه كالمسكين الذي أعيا يقول «ضعَّف في الطريق قوتي، قصَّر أيامي»، فيجيبه الله «من قدم أسست الأرض، والسماوات هي عمل يديك». فذاك الذي تعلن السماوات والأرض قدرته السرمدية ولاهوته، كان في بستان جثسيماني مسكيناً أعيا، يصلى إلى إلهه. وهناك في البستان ظهر له ملاك من السماء ليقويه! وأما الآن وهو فوق الصليب فإنه يصرخ إلى إلهه، وهو بدون قوة على الإطلاق.
أما لسانه، فإنه من سعير النيران التي تحملها، فقد لصق بحنكه. وإننا مرة أخرى نتساءل؛ من هذا الذي نراه هنا بحنك يابس؟ إنه الذي كال بكفه المياه (إش40: 12)، الذي يروي أتلام الأرض وبالغيوث يحللها (مز65: 10). إنه المفجر عيوناً في الودية بين الجبال تجري، تسقي كل حيوان البر، تكسر الفراء ظمأها (مز104: 10،11). ولقد صار حنكه يابساً من هول ما احتمل من سعير رهيب. إن نار الله التي نزلت في أيام إيليا وأكلت المحرقة والحطب والحجارة والتراب ولحست المياه (1مل18: 38)، هي التي احتملها بديلنا القدوس على الصليب. فهو خروف الفصح الحقيقي الذي لم يكن يطبخ بالماء بل يشوى بالنار (خر12: 8،9). وهذا هو فعل النار فيه. وهو إن كان أتى على كل نيران غضب الله وأمكنه أن يقول «قد أكمل»، لكن بعدها مباشرة أتت النهاية؛ حيث يقول «إلى تراب الموت تضعني»!
«لأنه قد أحاطت بي كلاب. جماعة من الأشرار اكتنفتني، ثقبوا يدي ورجلي» (ع16).
سبق في ع12 أن قال «أحاطت بي ثيران»، هذه تمثل قادة الأمة الإسرائيلية، أما في ع16 فيقول «أحاطت بي كلاب» وهؤلاء يمثلون الأمم (انظر متى 26:15). من أجل ذلك يقول بعدها مباشرة «ثقبوا يدي ورجلي»، والذي فعل ذلك هم الجنود الرومان.
ولقد كان الصيادون يستخدمون الكلاب المدربة لتحيط بالفريسة التي يريدون الإيقاع بها. هذا ما فعله صياد البشر الأكبر (الشيطان) عند الصليب، إذ استخدم أعوانه الأشرار والقتلة نظيره. وإذا كانت الكلاب المدربة تمزق فرائسها بأنيابها، فإن هؤلاء مزقوا المسيح بسياطهم ومساميرهم وشـوكهم!
«ثقبوا يدي ورجلي»
ما أقسى عملية الصلب. فأن تثقب اليدان والرجلان، هذه المناطق الممتلئة بالأعصاب الحساسة، التي عندما تتهيج ينتج عنها آلام تفوق الوصف، يعبِّر عنها لا إرادياً تحرك كل عضلات الوجه، ناطقة بقسوة الألم وقد جاوز الحد.
هاتان اليدان اللتان لم تكلا مطلقاً من فعل الخير العميم وشفاء جرح المتعبين، والرجلان اللتان حملتاه عبر طرق العالم المتربة المتعبة وصولاً لكل بائس محتاج. ماذا فعل بهـا البشر؟
سمروها فوق الخشب؟! آه ما أقسى أيادي صنعت هذا العجـب!
إننا يا فادينا المعبود لن ننسى مطلقا موت الصلب، سنظل كوصيتك العزيزة علينا نصنع ذكراك في كل أول أسبوع، ونخبر بموتك إلى أن تجيء. ونحن نعرف أنك في عشية يوم القيامة ظهرت لتلاميذك وأريتهم يديك ورجليك (لو24: 39،40)، ولازلت ترينا نفس هذا المنظر الأثير. بل إننا عندما نصل إلى المجد سنراك كخروف قائم كأنك مذبوح، وهناك أيضا لن ننسى موت الصليب!
«أحصي كل عظامي. وهم ينظرون ويتفرسون فيَّ» (ع17).
والعبارة الأولى تدل على مقدار نحافته، فهو باللغة الدارجة "جلد على عظم"، ذاك الذي غيرة بيت الله أكلته والتهمته التهاماً.
أما العبارة الثانية فيعبر المسيح فيها عن آلام نفسه الحساسة عندما أطال الأشرار نظراتهم الوقحة لجسده الذي علق عارياً فوق الصليب. آه، لو عرفوا من هذا الذين يتفرسون فيه هكذا بلا خجل أو حياء، لو عرفوا أنه الذي تغطي الملائكة وجوهها أمام هيبته، لو عرفوا أنهم سيقفون يوماً أمامه ليدانوا، وفي ذلك اليوم الذي فيه سيجلس على العرش العظيم الأبيض ستهرب من وجهه السماوات والأرض! نعم، «لو عرفوا لما صلبوا رب المجد» (1كو2: !
والنظرات إلى الصليب والمصلوب أنواع كثيرة في الكتاب؛ فهناك النظرة المحيية (عد21: 8، يو3: 14،15)، المخلصة (إش45: 22)، المبارِكة (مز41: 1). لكن هذه النظرة المذكورة هنا نظرة مهلكة ستجلب على أصحابها أشد الويلات. نتذكر قديما أن أهل بيت شمس تجاسروا في جهل عدم الإيمان ونظروا إلى التابوت، تلك القطعة المقدسة في بيت الله التي ترمز وتشير إلى المسيح، فمات منهم الآلاف الكثيرة (1صم6: 19). لكن لما جاء رب المجد نفسه، في يوم ضعفه، فقد علقوه على الصليب، وأخذوا ينظرون ويتفرسون فيه.
لكن مجداً لله، فكما تنبت الزنبقة البيضاء الطاهرة وسط الأوحال، هكذا أيضاً بين نظرات الأشرار الوقحة في يوم الصلب، كان هناك فريق آخر له النظرة المقدسة، فيخبرنا لوقا أن جميع معارفه ونساء كن قد تبعنه من الجليل كانوا واقفين من بعيد ينظرون ذلك (لو23: 49). ونحن أيضاً مع هذا الفريق ننظر ونتفرس، لكن ما أبعد الفارق بين نظرات ونظرات؛ نظرات الشماتة والجحود، ونظرات التعبد والسجود.
ثم يقول المسيح: «يقسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون» (ع18).
ولقد أشير إلى هذا العمل في كل البشائر (مت27: 35، مر15: 24، لو23: 34، يو19: 24). لقد قدر هؤلاء العسكر اللباس ولم يقدروا صاحبه. عرفوا قيمة الثوب غير المخيط، المنسوج من فوق إلى أسفل، ولم يعرفوا ما كان يصنعه المصلوب إذ كان ينسج للإنسان العاري ثوب بر إلهي بغير خياطة بشرية.
ويا للمفارقة الكبيرة بين آدم الذي جلب على نفسه وعلى نسله العري والعار، بل الهلاك والدمار، وبين آدم الأخير الذي لأجلنا تعرى كيما يكسو عرينا برداء البر الثمين، ويمتعنا بالحلة الأولى، كيما نسعد معه في بيت الآب إلى أبد الآبـدين.
ثم يختم المسيح كلامه في هذا القسم الأول بالقول:
«أما أنت يا رب فلا تبعد، يا قوتي أسرع إلى نصرتي. أنقذ من السيف نفسي، من يد الكلب وحيدتي، خلصني من فم الأسد، ومن قرون بقر الوحش استجب لي» (ع19-21).
ولقد سبق أن أشرنا إلى أن القسم الأول من المزمور (ع1-21) يصور لنا آلام المسيح الثلاثية المصدر؛ من الله والإنسان والشيطان. وها المسيح في ختام زفرات الألم يلخص تلك الآلام طالباً من الرب إلهه أن ينقذه من ثلاثة أمـور
«أنقذ من السيف نفسي»: إنه سيف العدل الإلهي؛ سيف لهيب النار الذي نقرأ عنه في تكوين3: 24، وزكريا 13: 7.
«من يد الكلب وحيدتي» : هنا نرى شراسة الإنسان، لا سيما الأمم وعلى رأسهم بيلاطس البنطي.
«خلصني من فم الأسد» : بطش الشيطان، الذي هو كأسـد زائر.
من هذه الثلاثية القاسية طلب المسيح من إلهه الإنقاذ؛ أن ينقذ من عدالة الله، وقساوة الإنسان، وبطش الشيطان. وسوف نرى في الفصل القادم كيف سمع له الله من أجل تقواه.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
رشاد حبيب-
عدد المساهمات : 184
تاريخ التسجيل : 31/01/2010
العمر : 45
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى